لقد سالت الدماء في المظاهرات التي ما تزال جارية في العراق، ما يعني أنها ستستمر في الغالب، وأن الليالي ما زالت حبلى بالأحداث. إنه جيل شباب مكتمل الوعي ممن لم ينخدع بالروايات الإيرانية ولا بالدعاوى والأحقاد الطائفية التي تدفن احتياجات الإنسان البسيط في جيب الأوهام والخرافات التاريخية.. خرج مطالباً بحقه في العيش الكريم بعد أن سئم أكاذيب الساسة الفاسدين. فقد وصلت البطالة إلى معدلات قياسية لاسيما في صفوف الشباب، وتردت الخدمات العمومية إلى الحضيض، فيما يعيش ربع سكان العراق البالغ عددهم 40 مليون نسمة في فقر مدقع بمتوسط ??دخل لا يتجاوز دولارين في اليوم. إنه مشهد حزين لبلد يملك خامس أكبر احتياطي عالمي من النفط، وينتج نحو خمسة ملايين برميل يومياً.. بلد يمكنه أن يكون أحد أغنى بلدان الشرق الأوسط، لكن دخله تبخّر في شبكات فساد تدفع الإتاوة لإيران.
أمرٌ آخر استفز الجماهير في النصف الثاني من شهر سبتمبر المنصرم، وكان سبباً في بدء المظاهرات الأولى، ألا وهو إقالة الجنرال عبد الوهاب الساعدي قائد جهاز مكافحة الإرهاب. فهذا الجنرال يعتبره العراقيون بطلاً قومياً بسبب قيادته العمليات العسكرية التي هزمت الدواعش وطردتهم من حوالي نصف أراضي البلاد التي استولوا عليها، لكن اتضح أن طهران وميليشياتها ترى فيه عائقاً أمام خططها للسيطرة على بغداد وعلى الجيش الوطني العراقي.
إيران لم تستقو على العرب إلا بأمرين، الأول: ابتلاع العراق بعد سقوط نظام صدام حسن في عام 2003 وامتصاصها لخيراته منذ ذلك التاريخ إلى هذه اللحظة، حيث أصبح العراق العظيم بنفطه وزراعته وصناعته، رافداً للاقتصاد الإيراني ومصدراً لإنعاشه، ولم يبق للشعب من ذلك إلا فُتاتاً لا يكفي لزحزحة الغالبية عن خط الفقر. الأمر الثاني: المزايا العديدة التي كفلها لإيران الاتفاق النووي الموقع عام 2015. لقد نجحت إيران في عملية الابتلاع تلك من خلال التشيع السياسي (لا المذهبي)، فهي لا تبالي بشيعة ولا بسنة، بل تريد فقط من يقدمون لها فروض الطاعة والولاء، فهؤلاء هم شيعتها، بمن فيهم جماعة «الإخوان المسلمين» العراقية التي باركت هذا الابتلاع وانضوت تحت لوائه على أمل نيل بعض الفتات منه، ولذا نفهم السبب في أن شمال العراق السني لم يتحرك إلى هذه اللحظة، فإخونجية العراق -حالهم كحال «حماس»- مع إيران، ولا رغبة عندهم في الانتفاض ضدها.
العراق لم يكن طائفياً قبل الابتلاع الإيراني، فكل العشائر العربية العراقية كانت تتجاور وتتصاهر حتى أنك لتعجب من كثرة من تلقى ويكون أبوه شيعياً وأمه سنية أو العكس. بطبيعة الحال هذا لم يعجب إيران، وكم ارتكبت من الجرائم خلال ستة عشر عاماً الماضية بهدف قطع هذه العلائق، إلا أنها لم تنقطع بسبب وعي العراقيين! ومع هذا، لا يُستبعد أن تحاول إيران إشعال الفتنة الطائفية من جديد، وبكل الوسائل المتخيلة وغير المتخيلة.
إنها ليست ثورة سنيّة، كما تصوّر بعضهم لأول وهلة، بل ثورة العراقيين ضد الهيمنة الإيرانية وضد تردي الأحوال المعيشية، وهي كذلك إعلان صريح عن عودة العراق إلى حضن أمته العربية، وكم هو جدير بأن نقف كلنا معه. فنحن أمام روح العروبة التي كادت تموت عندما دخل صدام حسين إلى الكويت، وها هي تنتعش، وكأن العراق يُكفّر عن خطيئة صدام بإنعاش تلك الروح من جديد.