من المصادفات الطريفة في الانتخابات الجارية في تونس وإسرائيل أن مرشحاً يريد أن يفوز هو: نتنياهو لكي لا يدخل السجن، وآخر هو نبيل القروي يريد أن يفوز لكي يخرج من السجن. فالسجن هو القاسم المشترك بين الاثنين: الأول متهم بالفساد والثاني بتبييض الأموال والتهرب من الضريبة. لكن يمكن أن نقارب بين هذين المرشحين و«الإخوان» في تونس. فهم متهمون بعمليات اغتيال بعض الرموز السياسية كشكري بلعيد... وتدمير المسرح الوطني وإثارة الفتنة. لكن مشكلة «الإخوان» باتت أبعد بكثير لا تتلخص بانهيار شعبيتهم فحسب، بل خسارة هويتهم التي طالما حاولوا رفعها وهي الإسلاموية الثورية والراديكالية. فشعبيتهم تتراجع بحسب نتائج الاستطلاعات والأرقام الرئاسية الأخيرة حيث حل مرشحهم «مورو» في المرتبة الثالثة بعد قيس سعيد ونبيل القروي. مأزق بوجوه عدة: مُقنّع وسافر وجماهيري، المقنع أن حزب «النهضة» حاول تجميل صورته بتحالفات انتهازية مع العلمانيين لتقاسم السلطة السياسية معهم.
الوجه الثاني السافر أنه وبعد فشل استراتيجية الحزب البراغماتية وانكشاف لعبته أمام الطبقات الفقيرة والإسلامية تقلص وجوده في معاقله في الأحياء والمدن المهمشة، لمصلحة «القروي»، وها هو يتراجع عن شعاراته «الإخوانية» لأهداف سياسية برفع شعار الحزب «الديمقراطي الإسلامي»، ليتقدم كفريق معتدل يمكنه المساومة والصفقات مما أدى إلى تخلي مئات الألوف من الناس عنه. والأرقام تتكلم: فمنذ أول انتخابات تونسية عام 2011 بدأ تقهقره الدراماتيكي. ففي تلك الدورة حقق انتصاراً كاسحاً حصد فيه 1.5 مليون صوت مثلت 37% من مجموع المقترعين. وبحلول عام 2014 انخفض منسوب «النهضة» الانتخابي إلى 28% أي ما يعادل خسارة نحو مليون صوت. وفي عام 2019 حصل مرشحه الرئاسي «مورو» على 12%، إضافة إلى انقسامات عمودية هزت هذه الجماعة.
لكن ها هو الحزب يريد عبثاً تعويض انتكاساته الفادحة أولاً بتأييده المرشح قيس سعيد (يلتقي الإخوان في مسألة عدم مساواة المرأة والرجل في الميراث، لأنه القرآن هو المرجع الوحيد). وحاول استرجاع موقعه الثوري بمهاجمة المرشح الليبرالي نبيل القروي، فاقسم الغنوشي «بألا يشارك في ائتلافاته إلا مع القوى الثورية». لكن أي قوى ثورية!؟ وهل يكفي أن يتخذ موقفاً من خصم «سعيد» أي «القروي لكي يستعيد هويته المتطرفة الثائرة؟
ولو راجعنا مسيرة حزب «النهضة» قبل 2011، عندما كان ذا هوية إسلاموية راديكالية نجد أن كل أقنعته هذه تساقطت، وكأنما لم يتبق له سوى إنقاذ ماء الوجه والالتفاف على تدهور حضوره بالمشاركة في تلفيق التهم ضد «القروي» بالتواطؤ مع يوسف الشاهد وبعض القضاة.
كل ذلك أدى إلى أزمة ديمقراطية كبيرة في تونس. فمرشح للرئاسة في السجن وآخر طليق. الأول محروم من الفرص المتكافئة والقانونية لإدارة معركته، والثاني يتنقل بحرية على الشاشات وصفحات الجرائد ليعزز حضوره.
صحيح أن الهيئة العليا للانتخابات حددت نهائياً تاريخ إجراء الدورة الرئاسية الثانية في 13 أكتوبر ورفض القضاء ثلاثة مطالب تقدم بها محامو «القروي» للإفراج عنه، إلا أن رئيس الدولة المؤقت أبدى تحفظاً على استمرار وجود «القروي» في السجن بعدما بدأت الحملات الدعائية للمرشحين، وأعلن أنه يحاول أن يعالج المسألة مع القضاء والهيئة العليا لإطلاق «القروي»، لأنه إذا استمر الوضع كما هو فسيشكل طعناً في نتائج الانتخابات. فهل ينجح الرئيس التونسي المؤقت في مسعاه أم أن مسار الأمور سيبقى على حاله؟ وعندها إما أن يقدم طعوناً في صحة الانتخابات أم يؤدي ذلك كما يشتهي «الإخوان» إلى إلغاء الدورتين الانتخابيتين، وربما تصبح تونس بلا رئيس جمهورية للمرة الأولى في تاريخها.