شهدت الآونة الأخيرة تواتر الدراسات التي تظهر تحقيق اختراقات واعدة، وقفزات هائلة، في علاج عدد من الأمراض السرطانية، بدرجة رفعت على نحو ملحوظ من آمال الشفاء من هذه الأمراض وزادت فرص النجاة منها. وتعتمد تلك الاختراقات والقفزات في معظمها، على تفصيل أو تخطيط العلاج حسب العيوب الوراثية الجينية للخلايا السرطانية المستهدفة في جسم المريض.
آخر تلك الاختراقات، أُعلن عنه في مؤتمر الجمعية الأوربية للأمراض السرطانية، والذي انتهت فعالياته بداية الشهر الجاري. وتضمن هذا الاختراقُ، الإعلانَ عن نتائج وصفت بأنها مذهلة لعقار (Olaparib) كان يستخدم في علاج سرطان المبيضين، وأظهر فعاليةً مبهرة وُصفت بالثورية في علاج سرطان البروستاتا. حيث أثبت هذا العقار قدرته على إبطاء معدل نمو وانتشار المرض لعدة شهور بين مصابين بلغ مرضهم مرحلة متقدمة، وهو ما سيترجم إلى زيادة فرصة النجاة لبعضهم، أو على الأقل فرص بقائهم على قيد الحياة لفترات أطول. ويؤدي هذا العقار مهمته، من خلال استهدافه للخلايا السرطانية ذات المادة الوراثية المختلة والمعيبة فقط، متجنباً الخلايا الطبيعية ذات المادة الوراثية السليمة. وينتج عن هذا الأسلوب الدقيق في العلاج، وفي مهاجمة الخلايا المريضة فقط، تجنيب المريض الأدوية والعقاقير التي لا تفرق بين الخلايا الطبيعية والخلايا المريضة، وبالتالي تنتج عنها مضاعفات جانبية كثيرة، بعضها قد يكون خطيراً على حياة المريض.. وإن كان يعيب هذا الأسلوب أنه لا يصلح للجميع، حيث تقتصر فائدته فقط على المصابين بخلايا سرطانية تتميز بجينات معيبة محددة.
وعلى المنوال نفسه، تناقلت وسائل الإعلام بداية الأسبوع الأخير من الشهر المنصرم، خبر موافقة الجهات الرقابية الدوائية في الاتحاد الأوروبي على مجموعة جديدة من العقاقير هي (Tumor-agnostic)، والتي تمكن ترجمتها إلى «مضادات السرطان العمهية»، أي التي لا ترتبط بنوع محدد من السرطان، مثل سرطان الرئة أو الثدي أو البروستاتا.. بل تستهدف جميع الخلايا التي تتميز باختلال وراثي جيني، وبغض النظر عن مكانها أو باقي خصائصها. وبالفعل تمت الموافقة على أول أفراد هذه المجموعة من العقاقير، وهو عقار (larotrectinib) الذي يستخدم في الوقت الحالي لعلاج نوع من الأمراض السرطانية يتميز بعيب وراثي محدد. ويتوقع في المستقبل القريب أن يزداد عدد أفراد هذه المجموعة من الأدوية، مما يبشر بفعالية أكبر في العلاج، وبالترافق مع خفض واضح في حجم وخطورة الأعراض الجانبية.
وعلى العموم، وبخلاف هذه الاختراقات الحديثة جداً، التي أعلن عنها خلال الأسابيع والشهور القليلة الماضية، شهد علاج الأمراض السرطانية خلال السنوات والعقود الأخيرة تطوراً هائلاً، مما زاد بقدر ملحوظ من آمال الشفاء وفرص النجاة بين المصابين به.
وربما كان من أفضل الأمثلة على هذه التطور الجوهري في علاج الأمراض السرطانية، ما أعلن عنه مؤخراً من أن أكثر من نصف المصابين بأحد أنواع سرطان الجلد (الميلانوما)، أصبحوا ينجون بحياتهم، من مرض كان قبل عقد واحد من الزمان يعتبر مرضاً قاتلاً لا علاج له. فقبل عشر سنوات فقط، كان شخص واحد فقط من بين كل عشرين مصاباً بالميلانوما يظل على قيد الحياة بعد خمس سنوات من تشخيص الإصابة بالمرحلة المتقدمة من المرض، حيث كانت غالبية هؤلاء المرضى يلقون حتفهم في غضون شهور قليلة. إلا أن التطورات والاختراقات في مجال الأدوية والعقاقير التي توظف وتسخر جهاز المناعة البشري، نجحت في الإبقاء على حياة 52 في المئة من المصابين بالمراحل المتقدمة من الميلانوما، لمدة خمس سنوات على الأقل.
وتعتمد احتمالات الشفاء وفرص النجاة من الأمراض السرطانية على عوامل عدة، منها نوع المرض، والمرحلة التي تم فيها تشخيص الإصابة، حيث تتراوح هذه الاحتمالات بين نجاة غالبية المصابين، والوفاة شبه الأكيدة خلال خمس سنوات بعد التشخيص، حيث يلقى حوالي نصف المرضى المصابين بسرطان خبيث حتفهم، إما بسبب مرضهم أو بسبب ما يتلقونه من علاج. والمؤسف أنه إذا ما خرج المرض عن مكانه الأساسي، وانتشر في باقي أعضاء الجسم، فإنه حينها تتراجع فرص النجاة بقدر ملحوظ، مما يجعل التشخيص المبكر أحد أهم الاستراتيجيات لخفض الوفيات الناتجة عن الأمراض السرطانية، حيث تظهر الدراسات الواحدة تلو الأخرى، أن الكشف المبكر من خلال الفحوص الطبية المسحية، يمكنه أن يخفض من الوفيات الناتجة عن الأمراض السرطانية بنسب ملحوظة، وإن كانت هذه الفحوص المسحية لا زالت تواجه مشكلات علمية وفنية، تعيقها عن أن تصبح ممارسة يومية، وتمنعها من أن تكون أكثر فاعلية في اكتشاف الأمراض السرطانية مبكراً.