منذ نحو ثماني سنوات، عرف العالم العربي أزمات، تسببت بها أحداث سياسية واقتصادية وأمنية بارزة، هيمن عليها استمرار النزاعات الدموية في سوريا واليمن وليبيا، وتزايد نفوذ إيران واتهامها بالتدخل في الشأن العربي، وخاصة في العراق وسوريا واليمن، فيما لم تسجل هذه السنوات أي تطور إيجابي ميداني كبير لصالح القضية الفلسطينية، إذ واجهت وما زالت تواجه حرباً شعواء من حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مدعوماً من الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته، رغم تصاعد التأييد الحزبي والجماهيري الغربي للقضية الفلسطينية.
لكن خارج العالم العربي، هناك الآن أزمات شبه مستعصية في بلدان العالم الغربي «المتحضر» أساسها ‏«الشعبوية»، التي تكاثرت أحزابها وحركاتها هناك خلال الأعوام الأخيرة، ولم تعد شعاراً فقط. إنها الآن برنامج حكم يتسع على امتداد عدد من الدول الغربية المؤثرة ويمتد صداه إلى دول أخرى، حيث باتت بعض الأحزاب والحركات تتبنى خطاباً سياسياً قائماً على معاداة مؤسسات النظام السياسي ونخبه المجتمعية، حتى أضحت هذه الأحزاب والحركات قوة سياسية واجتماعية حاضرة بقوة في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، خاصة في أوساط اليمين المتطرف، متسببةً في سلسلة أزمات بنيوية داخل تلك البلدان. وقد تزامنت البدايات الأهم مع تولي الرئيس الأميركي (ترامب) الرئاسة في عام 2016، العام الذي أُطلق عليه «عام الشعبوية السياسية»، حيث بات مصطلح «الشعبوية» يتردد في المنابر الإعلامية، عند كل عملية اقتراع تجرى في البلدان الغربية، القاسم المشترك بينها جميعاً مناهضة العولمة والهجرة واللجوء وسياسات التقشف المالي، التي تُضعف الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، إضافة إلى النزعة القومية الحادة والتحصن وراء الهوية الوطنية.. وكل هذا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعنصرية صريحة.
وهناك أزمات شبه مستعصية اليوم في بلدان اليمين الشعبوي، فالرئيس ترامب يصدر كثيراً من قراراته على خلفية صراعه الانتخابي ضد الديمقراطيين، وليس بالاستناد إلى سيادة القانون أو المؤسسات المستقلة، حتى باتت أميركا حالة شعبوية متنامية، ومما فعله ترامب تحويل المجتمع الذي كان إلى وقت قريب يؤمن بالاختلاف وتعدد الآراء، إلى «مجتمع» يعتبر الرأي الآخر خائناً يضر بالبلاد، وغدت مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بلغة التجريم والتخوين، بل تطورت الأمور إلى مرحلة، أطلق فيها الحزب الديمقراطي محاولات لعزل ترامب!
وفي إسرائيل الموصوفة زوراً بأنها من أنجح الديمقراطيات في العالم، وواحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، رغم سعيها الدائم لمحو الشعب الفلسطيني وتاريخه، وأسست الدولة الصهيونية للعنصرية والفاشية: حكومات أكثر يمينية، في ظل تعاظم السياسات المتطرفة تجاه العرب والفلسطينيين. ومع إقرار «قانون القومية» الذي شطب مبدأ ضمان المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية للجميع، نرى في إسرائيل نظاماً يقترف ممارسات فاشية، ويستند إلى نزعة عسكرية عدوانية وتوسعية تهدد أمن المنطقة. وفي هذا السياق، كتبت أسرة التحرير في صحيفة «هآرتس» في افتتاحية جديدة: «الأزمة الحالية في إسرائيل هي وليدة مباشرة لحكم يميني طويل السنين، هدام ومحرض، كان مصمماً على تصفية البنية التحتية الديمقراطية لإسرائيل، وأجرى نزع شرعية لملايين المواطنين، سواء أكانوا من الأقليات أم من الخصوم السياسيين».
منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، حاولت دراسات عدة فهم ظاهرة انتشار الشعبوية من داخل يمين الأحزاب الأوروبية ويسارها، مستغلةً الأزمات غير المسبوقة التي يشهدها الاتحاد، خاصة أن السمة الرئيسة لأحزاب اليمين المتطرف حشدها السريع لتأييد الجماهير على خلفية أزمة الهجرة. فجاءت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة لتثبت صعود القوى الشعبوية، وإن لم يكن بصورة كاسحة. وفي مناخ كهذا جاء بوريس جونسون، كرئيس للوزراء في بريطانيا، ليلقّبه بعضهم «ترامب بريطانيا» (للتشابه بينهما في الشخصية، وفي المظهر الخارجي، وفي بعض المواقف). لقد أثبت جونسون شعبويته واستخدامه لغة إقصائية تجاه المهاجرين، وباتت سياسات إحدى أعرق الديموقراطيات الأوروبية أقرب إلى اليمين المتطرف. وفي غمرة اندفاعه نحو «بريكست»، وصف الاتحاد الأوروبي بأنه «مشروع زعيم النازية أدولف هتلر، الذي حاول إنشاء دولة أوروبية واحدة»!
موجة الشعبوية في بلدان أوروبا والولايات المتحدة تتنامى، ومن الواضح أن هذه البلدان تمر بأزمة بنيوية حقيقية، ففيما لم يعد سيناريو انهيار الاتحاد الأوروبي مستبعداً، لا سيما في ظل تنامي هذه القوى الشعبوية اليمينية داخل القارة العجوز، تمر الولايات المتحدة بحالة اضطراب اجتماعي، في ظل غضب يتصاعد لدى الطبقة الوسطى، إزاء الطبقة البيضاء المتحكمة.
إن الأزمة البنيوية في أوروبا والولايات المتحدة قد تفاقم الأزمات الأخرى، مما سيتسبب بتغييرات جذرية في هذه البلدان، خلال وقت تفتقر فيه لزعماء قادرين على كبح الجنوح اليميني الشعبوي.
وبالمقابل، هناك تحسن تدريجي للصورة في العالم العربي، ينبئ بتطورات إيجابية هو بأمس الحاجة إليها. فالتجربة التونسية تبدو ناجحة إلى درجة معقولة، وقد كشفت عن نمو مطرد في نضجها. كما أن طريق الديمقراطية أصبح شبه سالك في السودان، مع بدء الانتقال الديمقراطي هناك، فيما عبّرت الجزائر عن وعي ناضج يسير في طريقه لخلق نظام ديمقراطي.
نحن إذن أمام تحولات تتضمن بروز ظواهر «شعبية» وطنية عربية متنامية، مقابل ظواهر «شعبوية» غربية مناهضة لكثير من مبادئ الديمقراطية.