يبدو أن بينيامين نتنياهو يعود مرة أخرى إلى السلطة  رئيساً للوزراء، بعدما كلفه الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين أمس  الأربعاء، تشكيل حكومة جديدة بعد فشل المفاوضات بين الأطراف السياسية لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
بعد فشل القوى السياسية الإسرائيلية التي عبرت عنها انتخابات الكنيست الإسرائيلي في أبريل الماضي، توجه الناخبون الإسرائيليون مرة أخرى في 17 سبتمبر ليعيدوا الانتخابات، محاولين أن ينشئوا أغلبية سياسية قادرة على تشكيل حكومة وتحظى بغطاء من أغلبية الكنيست، كما هو شأن تقاليد السياسة الديمقراطية، والتي يبدو واضحاً أنها تواجه مأزقاً وجودياً بسبب عجزها عن تشكيل وجهة سياسية معقولة للدولة والمجتمعات، ذلك أن الديمقراطية تعمل ببساطة وفق قاعدة حكم الأغلبية كما تحددها الانتخابات العامة، لكن عندما لا تتشكل هذه الأغلبية، فإن الحياة السياسية تواجه الانسداد، وتتحدى الفلسفة المنشئة لها. لكن قد تستطيع الأحزاب الإسرائيلية تشكيل ائتلاف يحظى بأغلبية نيابية. وقبل أن يحسم الرئيس الإسرائيلي المشهد، ويكلف نتنياهو، تشكيل الحكومة،  كانت هناك ثلاثة احتمالات رئيسية لذلك، أن يشكل «جانتس» رئيس كتلة أزرق وأبيض، والذي حصل على 33 مقعداً من 120 مقعداً، ائتلافاً حزبياً من الوسط السياسي الإسرائيلي والنواب الفلسطينيين (القائمة العربية المشتركة - 13 مقعداً) والاحتمال الثاني أن يستطيع نتنياهو رئيس كتلة ليكود التي حصلت على 31 مقعداً تشكيل ائتلاف مضاد من اليمين السياسي والأصوليين اليهود، وربما تشكل الكتلتان الكبريان (ليكود – نتنياهو، وأزرق وأبيض – جانتس) ائتلافاً برغم ما بينهما من خلاف عميق.
  بعض المراقبين رجحوا  احتمال أن يشكل «جانتس» الحكومة بدعم من النواب الفلسطينيين، وبرغم أنه تشكيل قد يضعف شعبيته بين الإسرائيليين المعادين للفلسطينيين والرافضين لمشاركتهم الفعلية في الحياة السياسية والذين لا يرون وجودهم في الكنيست سوى تمثيل اجتماعي للدفاع عن مصالح واحتياجات المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، وفي المقابل فإن الوجود الفلسطيني في الائتلاف السياسي سيمنح مشروع السلام الموعود والذي يبشر به الرئيس الأميركي، دونالد ترمب (صفقة القرن) فرصاً إضافية وقوية للنجاح والقبول بين الفلسطينيين والعرب. ورغم عودة نتنياهو إلى الحكم  فإن عصره قد انتهى، ولن يكون قادراً على الاستمرار في سياساته السابقة التي هيمنت على إسرائيل والمنطقة حوالي 13 عاماً.
وبالطبع فإن الحكومة الإسرائيلية القادمة سوف تظل هشة وقابلة للسقوط؛ لأنها تعتمد على أغلبية برلمانية ضئيلة ومجموعات وكتل سياسية مختلفة بل ومتنافرة، ولا تستطيع أيضاً أن تقدم على مبادرة سياسية مهمة؛ لأنها في ذلك قد تغامر بقدرتها على الاستمرار. لكن مؤكد أن الانتخابات الإسرائيلية تقدم مؤشرات مهمة على التحولات السياسية والاجتماعية والطبقية والثقافية في إسرائيل وفي الإقليم أيضاً، إذ أن التفاعل الاجتماعي والثقافي في إسرائيل ليس معزولاً عما يدور في العالم.
وقد تصلح هذه الانتخابات لملاحظة مأزق اليمين السياسي والقوميات والأصوليات التي بدأت في الصعود منذ تسعينيات القرن العشرين، ثم حققت انتصارات سياسية وانتخابية في أنحاء مختلفة من العالم وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية التي حدثت عام 2008، وكما كانت هذه الأزمة أزمة للعولمة والقيم الليبرالية، فإن الأزمة الحالية هي أزمة اليمين والأصوليات.
لم يتمكن الإسرائيليون برغم التقدم الاقتصادي والسياسي الذي أحرزوه على مدى العقود السبعة الماضية وقوة الجيش ومؤسسات الدولة الكبرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من تشكيل اندماج وطني واجتماعي يستوعب جميع اليهود القادمين من حوالي ثمانين دولة، والذين ينتمون إلى ثقافات ولغات وإثنيات متنوعة معقدة، لكنهم استطاعوا أن يديروا هذه التنوع بدرجة تجنبهم الصراع والهزيمة.
ويبدو أن الحروب والصراعات والمخاوف والتهديدات الوجودية «ساعدتهم» على الوحدة في مواجهة الخطر وتحييد أو تأجيل التناقضات الداخلية، لكن الحروب انتهت تقريباً، والمخاوف الكبرى تتلاشى تقريباً، وينشأ جيل جديد من الإسرائيليين أقل حماساً للحروب وأكثر اندماجاً ورغبةً في الحياة والثقافة العالمية، ويتحمسون أيضاً لهوياتهم الفرعية والأصلية أكثر من آبائهم، ما يزيد الخلافات والتناقضات الداخلية، وبالطبع فإن صعود الهويات الفرعية يشكل ظاهرة عالمية تشمل جميع الأمم، ولا تخص الإسرائيليين.

*كاتب وباحث أردني