كانت مسألة وقت فقط قبل أن يقيل دونالد ترامب ثالثَ مستشار له في الأمن القومي. وبالنسبة للكثيرين فقد كان من المذهل حقا أن جون بولتون استطاع البقاء في منصبه كل هذه الفترة. ذلك أن بولتون، الصقر المخضرم والمحافظ جداً، عمل في واشنطن لفترة طويلة ولديه تجربة كبيرة في الصراعات البيروقراطية الداخلية. وبفضل هذه المهارات، استطاع البقاء في البيت الأبيض ثمانية عشرة شهراً رغم العديد من الشجارات والخلافات الجوهرية مع ترامب حول طبيعة واتجاه السياسة الأمنية الأميركية.
وحسب ما هو معروف من آراء بولتون حول ترامب، فقد كان واضحاً من بداية مأموريته أنه يتبنى خطاً أكثر تشددا بكثير تجاه روسيا من رئيسه وأنه أكثر دعما لأوكرانيا في حربها مع روسيا. كما أنه كان أكثر اتفاقا مع وكالات الاستخبارات الأميركية والحليفة من أن روسيا تدخلت في الانتخابات الأميركية لعام 2016 بشكل سافر بهدف مساعدة ترامب على هزم هيلاري كلينتون. غير أنه كان يتقاسم العديد من آراء ترامب، وخاصة ما يتعلق منها بالحاجة إلى تشديد السياسة التجارية مع الصين، وممارسة مزيد من الضغط على أعضاء «الناتو» حتى ينفقوا أكثر على الدفاع، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية مثل «اتفاقية باريس للمناخ» و«خطة العمل المشتركة الشاملة» (الاتفاق النووي الإيراني).
ولكن في ما يتعلق بتدبير العلاقات الدبلوماسية مع الزعماء والمستبدين، كانت له وترامب خلافات قوية، حيث كان بولتون جد متشكك في سياسة ترامب تجاه الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. كما لم يكن يتقاسم معه إعجابه بكيم وانشغال هذا الأخير بالسعي وراء شبه جزيرة كورية خالية من السلاح النووي. ولكن خلافاتهما برزت أكثر عندما رتّب ترامب، في اللحظات الأخيرة، لقاء مع كيم في كوريا الشمالية عند المنطقة منزوعة السلاح في 30 يونيو 2019 مباشرة بعد قمة مجموعة السبعة التي انعقدت في اليابان ليصبح بذلك أول رئيس أميركي يزور كوريا الشمالية.
بولتون لم يحضر الاجتماع لأنه كان يزور بلداً آخر في آسيا، والأرجح أنه ما كان ليرغب في المشاركة في ما كان مجرد مناسبة لالتقاط الصور. غير أن أخطر مواجهة بين بولتون ورئيسه حتى الآن كانت بسبب المفاوضات التي انخرطت فيها إدارة ترامب بهدف إنهاء التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان، الذي يُعد أطول حرب في التاريخ الأميركي. كان ترامب قد أذن لزلماي خليل زاد، السفير الأميركي السابق إلى أفغانستان، والمولود في البلاد، بالتفاوض مع «طالبان» في الدوحة حول اتفاق بشأن خفض تدريجي للقوات الأميركية في أفغانستان في مقابل تعهد «طالبان» بألا تكون لها مستقبلاً أي علاقة مع تنظيمات «القاعدة» التي ما زالت تنشط في البلاد. ولكن الحكومة الأفغانية المنتخَبة، التي يرأسها أشرف غني، لم توجَّه لها دعوة للمشاركة في اجتماعات الدوحة.
وفي اللحظة التي أبلغ فيها خليل زاد ترامب بأن الوقت بات مواتياً لعقد اجتماع ثلاثي يشمل الحكومة الأفغانية، فإن قصة ما جرى ما زالت غير واضحة. ففي البداية، أعلن ترامب من خلال تغريدة على «تويتر» أن قمة ستعقد في المنتجع الرئاسي في كمب ديفيد في ولاية ميريلاند وأن الرئيس يأمل في توصل كل الأطراف الثلاثة إلى اتفاق يتم الإعلان عنه باعتباره نصراً لدبلوماسية ترامب. غير أنه ما أن أعلن الرئيس الأميركي عن المخطط الجريء حتى قام بالتراجع عنه بدعوى أن هجمات «طالبان» الأخيرة التي قتلت جندياً أميركياً تعني أنه لا يمكن الوثوق فيهم، وهكذا ألغى مخططاً كان سبباً لخلاف مرير بين بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إن بولتون أسدى خدمة كبيرة لترامب. ذلك أن فكرة عقد اجتماع من دون إعداد محكم وحذر تنطوي على عيوب قاتلة. فقد كان من غير الممكن التوصل لأي اتفاق ذي مصداقية خلال عطلة نهاية الأسبوع في كمب ديفيد. كما أن اختيار المكان كان كارثياً، حيث هاجم عدد من «الجمهوريين» البارزين فكرة جلب «طالبان» إلى كمب ديفيد قريباً جداً من الذكرى الثامنة عشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكنهم رحّبوا بتراجع ترامب المفاجئ عن القرار.
ومع رحيل بولتون، من المحتمل أن يكون لدى ترامب الآن فريق للأمن القومي أكثر انسجاماً مع تفويض سلطة أكبر للوزير بومبيو. والاختبار المقبل للفريق الجديد سيكون: كيف ينبغي التعاطي مع إيران في أعقاب هجمات الطائرات المسيّرة على المنشآت النفطية السعودية يوم السبت 14 سبتمبر، والتي يحمّل بومبيو مسؤوليتها لإيران.