القراءة تثري الثقافة وتثير التفكير وتحفز الخيال، وهذا المطلوب من عملية القراءة عبر القرون، وللإمارات قصة نجاح في جعل القراءة جزءاً من الحياة، يطول الحديث عن مفاعيلها. ولعل مفتاحنا هنا سؤال: عندما تفكر، هل أنت أنت.. أم أنك الآخر الذي قد أثّر عليك وحدد طرائق تفكيرك؟ يهيأ للإنسان أحياناً أن الأفكار الجديدة التي يُمتعه العثور عليها في ما يقرأ ويسمع غدت محدودة، وأن مساحة ممارسة التفكير لديه صارت ضيقة مع مرور الوقت، حتّى أنها لم تعد تكفي لأي عملية عصف ذهني إن رغب. على أن الممارسة التلقائية للتفكير عند الإنسان هي بحد ذاتها متعة كبيرة لا تُضاهى، خاصة إذا جرى توجيهها بطريقة سليمة وإيجابية. نعود إلى الشكوى من قلة الأفكار وشح مساحة التفكير لنقول إنها غير موجودة على أرض الواقع، بل هي تهيؤات والمبالغة فيها قد تفضي إلى علاقة بالوهم، وتلك حالة خطرة إن وقعت.
إن عدد الأفكار خياليٌّ ويفوق التصوّر، فائضة على جنبات الطرق بشهادة الجاحظ. والمساحات التي تنتظر رياضة التفكير واسعة تتعدّى حدود أبصار الجوارح في الفضاء. إذن، ما المشكلة وأين مكمنها؟ المشكلة، إن وجدت، مكمنها في شيئين رئيسيين أو ثلاثة: قلة القراءة ونوعية المقروء ومستواه. وقلة الاختلاط وجودة النقاش ومستواه وعياً وثقافةً. وهنالك من يضيف قلة الأسفار لتكون ضلعاً ثالثاً في المعادلة. في قلة القراءة تغيب المعلومة وتغيب معها حوافز التفكير والبناء والخيال. وفي قلة الاختلاط يغيب تصدير الفكرة ويغيب معه اختبار ما يُطرح وتقييم ما يُسمع. أما في قلة الأسفار فيغيب فيها شعور المرء بأنه مغمور بالحيوية ويكبر ويتسع في كل الأبعاد، ومع هذا الغياب - قلة الأسفار - تتعاظم في النفس موجبات العزلة والانكفاء والتفكير بصورٍ مؤلمة من الماضي.
القراءة ولها قصة نجاح أثيرة في الإمارات، قامت جزماً على أركان هذا المثلث العميق في معناه ووضوحه. والقراءة غالباً ما تسلم الفرد مفاتيح الخروج من مشكلات عويصة، وقع فيها غيره ونجا منها فرحاً كعصفور عل غصن بعد عاصفة، القراءة اليوم تقدم للفرد تلك الطرق لاستخدامها في مشكلاته الشبيهة جسراً يبلغهُ مآمن. إن الكتب هي خلاصات فكر وعصارات تجارب يكبر الإنسان إذا استوعبها وتتسع مداركه، ويستخلص منها القدرة على تدبّر حياته، وفي هذا تحصين له ولمجتمعه، وهذا ما له علاقة بسؤال الاستهلال: هل أنت أنت عندما تفكر، أم أنك الآخر؟ والمقصود أن هنالك عقولاً مؤجرة تفكر للآخرين بدلاً من أن تفكر لنفسها ولمصالحها الفردية والوطنية. نعم، هنالك شيء من هذا، ولكي يقف المرء على بعض علاماته، عليه بالقراءة ثم القراءة ليكتشفها ويجلي غموضها. من هذه العلامات أن العقلية المؤجرة تسلّم بمسلمات غير قابلة للنقاش ومبنية على تسليم الآخرين، من دون أي مراجعة أو حتّى التفكير بتعديلها. ومن علامات تلك العقليات المؤجرة الأحكام الفورية والانطباعات القطعية التي يكون سببها موروثات منطفئة تحجرت من الموت وجرى زرعها في تلك العقول المستسلمة. ومن علاماتها أيضاً تقديس الجماعات على اختلاف مذاهبها وشرورها، بعدما نجحت باستئجار العقول بسلاح الشعوذة وتوظيف الأديان واستثمار نزعة الخير في فطرة النفوس. وهذه العقليات المؤجرة تصبح عاجزة حتّى عن الخروج على القوالب أو الفرز بين المفيد والضار، بل ستفقد صلاحيتها للتفكير بما هو مفيد لنفسها أولمجتمعاتها وأوطانها.
*إعلامي وكاتب صحفي