من البديهيات المعروفة في الحكم الأميركي أن الرئيس يعيّن معاونيه أو يقيلهم وفقاً لما يراه مناسباً لسياساته، وتثير قراراته دائماً جدلاً يطول أو يقصر، بحسب الشخصية المعنيّة عندما يختارها وحين يستغني عن خدماتها. وفي ما يقرب من ثلاثة أعوام من ولايته ضرب الرئيس دونالد ترامب رقماً قياسياً في تبديل القائمين على مراكز أساسية في إدارته، وأبرزها منصب مستشار الأمن القومي. منذ فترة بدأت الإشارات الإعلامية إلى احتمال التخلّي عن جون بولتون، وهو ما حصل قبل أسبوع، وفي خضّم تعقيدات الأزمة مع إيران واحتمالات تخفيف العقوبات لتسهيل لقاء ترامب مع الرئيس حسن روحاني، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، أواخر الشهر الحالي.
لم يكن بولتون سياسياً تقليدياً، بل أيديولوجياً لا يخفي أجنداته، سواء كان يشغل منصباً أم لا. وعندما اختاره ترامب بدا مناسباً جداً لمرحلة إلغاء الاتفاق النووي وتفعيل استراتيجية مواجهة مع إيران. كان هذان العنوانان معروفَين منذ ترشّح ترامب للرئاسة، ولا يمكن أن يُنسبا إلى تأثير بولتون، بل يتطابقان مع تفكيره، وقد كتب في 2015 داعياً إلى «قصف إيران» كوسيلة وحيدة لوقف برنامجها النووي. لعل هذا الموقف الموثّق ما جعل معارضي الحرب في الولايات المتحدة وأوروبا يتخوّفون من وجوده مع ترامب يومياً في المكتب البيضاوي، رغم أنه منذ فرض العقوبات على إيران والحشد البحري الأميركي لضبط ردود الفعل الإيرانية لم يشر علناً إلى عمل حربي وبدا ملتزماً سياسة «الضغوط القصوى»، التي اعتمدتها إدارة ترامب وشدّدت فيها العقوبات. لكن يُلاحظ أنه لم يكن يروّج للتفاوض مع طهران، كما فعل رئيسه منذ لحظة إعلان الانسحاب من الاتفاق النووي، وكما فعل وزير الخارجية مايك بومبيو، حتى عندما كشف الشروط الـ12 التي تمثّل بنود التفاوض مع إيران.
لا شك أن موقع بولتون في الإدارة أتاح له التعرّف إلى تفكير رئيسه ومقاربته للملفات وطريقته في إدارة الأزمات، من كوريا الشمالية إلى أفغانستان وإيران، وصولاً إلى فنزويلا. والمؤكّد أنه تعرّف أكثر إلى فوارق في «العقيدة» بينه وبين ترامب. وإذا كان هناك ما يجمع بينهما فهو أولاً إدراك قوّة أميركا التي يعتبران أن مرحلة باراك أوباما قادتها إلى أفول، وثانياً الهدف؛ أي العمل لتعزيز مكانة أميركا وهيمنتها العالمية. لكن ما يفرّق بينهما هو الوسيلة، فليس سرّاً أن بولتون من المدرسة التي تؤمن بضرورة استخدام أقصى للقوة العسكرية تحقيقاً للهدف، أما ترامب فينظر إلى الخيارات الحربية أولاً من زاوية كلفتها المالية، ثم النتائج الاقتصادية والسياسية المتوقعة لها، وإذا أشار إلى الكلفة البشرية فذلك يعني أن الشروط السابقة لم تتوفّر، كما فعل حين ألغى ضربة لإيران ردّاً على إسقاط طائرة مسيّرة في (يونيو) الماضي، علماً بأن قيمتها قدّرت بنحو 120 إلى 150 مليون دولار.
لكن أكثر جمع بين ترامب وبولتون هو الموقف من إسرائيل، ولعل المستشار قدّر أن الرئيس ونائبه ذهبا حتى أبعد من توقّعاته في احتضانهما للحليف الإسرائيلي، تحديداً بنيامين نتنياهو. ولذلك لم يكن بولتون مضطرّاً لطلب المزيد من الضغط على الجانبين الفلسطيني والعربي، لكنه شكّل العين الساهرة الإسرائيلية على تطوّرات هذا الملف في جانبه الإيراني. ومع أن ترامب كأسلافه يأخذ مصلحة إسرائيل في الاعتبار في أي تأزّم مع إيران، فإنه كأسلافه أيضاً يعطي الأولوية للمصلحة الأميركية، نظراً إلى الموقع الإقليمي لإيران وحاجة أميركا إليها في استراتيجية تعزيز نفوذها في جنوب شرق آسيا ومواجهتها التجارية مع الصين. وإذ يعمل ترامب على فكرة اجتذاب إيران واستقطابها اقتصادياً وسياسياً، مفترضاً أنه يستطيع التفاهم معها حتى على تصويب سياساتها الإقليمية، فإن بولتون يتبنّى وجهة إسرائيل التي تقول بأن إيران لن تكون يوماً حليفة أو صديقة لأميركا، وبالتالي يجب ضربها وإضعاف نفوذها لئلّا تكون قوة إقليمية منافسة لها.
صحيح أن ترامب أقال مستشاره لأنه اختلف معه و«ارتكب أخطاء» بالنسبة إلى كوريا الشمالية وفنزويلا، لكن معظم التحليلات أشار إلى أن التحضير للقاء ترامب - روحاني هو ما شكّل نقطة الفراق. إذ أن بولتون عارض بشدّة تخفيف العقوبات لتسهيل لقاء جعلته الوساطة الفرنسية ممكناً، لذا قرر الرئيس أن ثمة فرصة يريد اغتنامها لوضع الأزمة مع إيران على سكّة المصلحة الأميركية. وبمعزل عن فحوى اللقاء ونتائجه، يُشار إلى «قلق» كامن يعكسه بعض المحللين في إسرائيل، لأن خروج بولتون يعني تغييراً في السياسة.