بينما تدخل رسوم جمركية أميركية جديدة على السلع الصينية حيز التنفيذ هذا الأسبوع، رفعت الصين دعوى لدى منظمة التجارة العالمية تتحدث عن ممارسات تجارية غير نزيهة. وفي الأثناء، ما زال بعض المعلقين يصفون الحرب التجارية الثنائية المتصاعدة بأنها حرب «خاسر -خاسر». وفي هذا الإطار، قال معلق قناة «إن بي سي» التلفزيونية «علي فيلشي» مؤخراً: «إن هذا أسوأ أنواع الحروب التجارية، لأن الجميع فيه خاسرون، فالولايات المتحدة تخسر.. والصين تخسر..».
ولا شك أن الحرب التجارية الأميركية الصينية تخلّف خسائر وضحايا. وبينما يسعى أقوى اقتصادين في العالم للضغط أحدهما على الآخر بفرض رسوم جمركية أكثر، تتزايد المخاوف من ركود اقتصادي عالمي.
لكن استمرار هذا النزاع يضر بكلا الطرفين، وبالتالي، فقد يعتقد المرء أن ثمة حافزاً لتقديم تنازلات. غير أنه إذا كان الجميع خاسرون اقتصادياً في الحرب التجارية الأميركية الصينية، فإن ذلك قد لا يكون واقع الحال من الناحية السياسية. فالدراسات والبحوث السياسية تشير إلى عدد من الأسباب التي تفسر كيف أن القيادة يمكن أن تستفيد من حرب تجارية طويلة الأمد. وهنا تبرز ثلاثة أسباب رئيسية تشرح لماذا قد لا تتراجع بكين أمام واشنطن قريباً:
1- الحرب التجارية تمنح عدواً واضحاً: البحوث المكثفة في «سياسة تحويل الانتباه» تشير إلى أنه ليس ثمة شيء يقدّره الزعماء السياسيون ويثمنونه أكثر من «شرير خارجي»، عدو يمنح الناس هدفاً يعبّئون أنفسهم ضده، ويلهب الحماس الوطني. وبالنسبة للصين، فإن إدارة ترامب هي الخصم المثالي. الرئيس الصيني شي جين بينغ لم يتردد في انتقاد إدارة ترامب والتحذير من الحرب التجارية. وبينما قال ترامب إن الرسوم الجمركية لا تكلّف المستهلكين الأميركيين شيئاً، أكد «شي» أن الفوز بهذه الحرب سيتطلب تضحيات بطولية من المواطنين الصينيين الذين عليهم أن يتعاضدوا ويتكاتفوا. ولا شك أن القيادة الصينية ترغب في كسب الحرب التجارية، لكنها أيضاً تحتاج للتغلب على بعض التحديات الأخرى. وأن يكون لديك خصم واضح مثل ترامب لا شك أنه يجعل تلك المهمة أسهل.
2- فرصة الصين لتقسيم الغرب: ثمة العديد من الدراسات التي تبحث كيف تتحدى بعض القوى الصاعدة، مثل الصين، العوامل الجيوسياسية لعالم أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة. ومثلما تدخلت روسيا في انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2016 من أجل زرع الفرقة واستعراض عضلاتها، فإن التحالفات الأميركية المعتلة والفوضى السياسية في واشنطن يمكن أن تفسح المجال لصعود الصين. والاعتقاد السائد هو أن الصين تلعب لعبة الانتظار في الحرب التجارية. ويذهب القائلون بهذا الرأي إلى أنها تراهن على فوز مرشح «ديمقراطي» بالبيت الأبيض عام 2020، وأنها ستغتنم الفرصة لرعاية اتفاق يصب في صالحها أكثر. غير أن ثمة نظرية بديلة مفادها أن الصين تستغل الحرب التجارية على نحو متعمد لإحداث انقلاب في الوضع الراهن بالمشهد السياسي الأميركي، وبالتالي التحكم في السياسة الخارجية الأميركية. «أنثوني سكاراموتشي»، الموظف البيت الأبيض السابق والذي تحول إلى منتقد لترامب، أوضح هذه الفكرة مؤخراً، إذ قال على تويتر: «إن القيادة الصينية ربما تريد بقاء ترامب في السلطة»، مضيفاً: «إنهم يفكرون على المدى الطويل. تصور أن خمس سنوات أخرى من حكمه ستزعزع انسجام التحالف الغربي كلياً وتقضي على نظام التجارة العالمي».
والواقع أن معظم المحللين يتفقون على أن الصين تتطلع إلى منافسة الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى في غضون عقود (إن لم يكن تجاوزها وحجبها). ولا شك أن الخلافات السياسية بين الزعماء الغربيين وعجز الحكومة الأميركية عن مواجهة التحديات الكبيرة، بما في ذلك الإبقاء على اقتصادها في حالة جيدة، يمكن أن يساعدا الصين على تحقيق أهدافها وكسب الحرب التجارية بسرعة أكبر.
3- رسالة صينية واضحة: هناك العديد من البحوث والدراسات حول «نظرية الإشارة» التي تبحث كيف يلتزم الزعماء السياسيون على نحو ذي مصداقية باتخاذ قرارات سياسية صارمة. وهذا يحيلنا على كيفية اكتساب البلدين سمعة العزم والتصميم. وإذا كان بعض الباحثين يعتبرون أن السمعة الوطنية لا يمكن اكتسابها من خلال القتال، فإن البحوث المتعلقة بالردع تؤكد أن إثبات الرغبة في التسبب للعدو بالألم هي أهم سلاح وأكثره تأثيره. وفي ما يتعلق بقدرة الدول على اكتساب سمعة التصميم، يمكن القول: إن الحرب التجارية تتيح لـ «شي» فرصة نادرة لإرسال إشارة قوية وواضحة مفادها أن الصين لن تسمح بالعبث معها على الساحة العالمية. وإلى ذلك، فإن رفض التزحزح في الحرب التجارية يمكن أن يَحول، بالنسبة لـ «شي»، دون محاولات تحدٍّ مستقبلية من بعض الخصوم، وأن يُثبت بأن الصين قوةٌ ينبغي أن يحسب لها ألف حساب. ذلك أن صمود الصين في الحرب التجارية قد يجعل دولا منافسة أقل ميلا لخوض معركة معها مستقبلا. وبرفضه التراجع أو الاستسلام، يؤشر «شي» إلى أن الصين لن تسمح بالتنمر عليها، وإلى أنها مستعدة لخوض لعبة طويلة، وغير خائفة من الرد على البلدان التي تريد الوقوف في طريقها.
وعليه، فإن الحرب التجارية الأميركية الصينية تتعلق بالاقتصاد في نهاية المطاف، لكنها تتعلق بالسياسة أيضاً. وسياسياً، يبدو أن لدى الصين أسباباً كثيرة لمواصلة خوضها.
توماس غيفت*
*أستاذ السياسة والاقتصاد بجامعة يونيفرسيتي كوليدج في لندن
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس»