ديفيد آلن جرين*
بركسيت دون صفقة سيؤدي إلى تعطل خطوط إمداد حيوية، وسيصبح بسببه ملايين الأشخاص في وضع قانوني غير مؤكد
-----------------------
الجدل في السياسة البريطانية، بشأن تعليق جلسات البرلمان، مهم وغير مسبوق. والقضية محل الجدل محورية، وقد تعني وقوع المملكة المتحدة في أزمة دستورية. والقضية تدور على خلفية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (بركسيت) الذي تأجل مرتين، ثم تم تحديد تاريخه بيوم 31 أكتوبر المقبل. وترك الاتحاد الأوروبي هو الموقف القياسي الذي يحدث عبر عملية قانون تلقائية، ما لم يقع ما يعرقله. وكان من المستهدف أن يصحب هذا الرحيل اتفاق انسحاب شامل بشأن طائفة من القضايا العملية. وفي نوفمبر الماضي توصل مفاوضون بريطانيون وأوروبيون إلى مسودة اتفاق أو ما يطلق عليه «صفقة». لكن البرلمان رفض «الصفقة» ثلاث مرات. والنقطة الرئيسية في تلك الصفقة الأكثر جدلاً، وإن لم تكن الوحيدة، هي ترتيبات «الملاذ الأخير» التي تتعلق بالحدود بين أيرلندا وأيرلندا الشمالية. وهذا الملاذ الأخير يعني استمرار التجارة عبر الحدود، حتى إذا لم تتفق المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على علاقة تجارية جديدة.
واتفاق الملاذ الأخير قد يعني أن تظل المملكة المتحدة في إطار السوق الموحدة والاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي لفترة أطول بعد الرحيل، مما يجعل مغادرة الاتحاد الأوروبي بلا مغزى في جوهرها. وأنصار بركسيت الذين يعارضون اتفاق الملاذ الأخير، يرون أنه سيجعل الخروج البريطاني صورياً فحسب. وهذا، ضمن مخاوف أخرى، يعني أن كثيرين من أعضاء البرلمان مصرون على أن الاتفاق لا يمكن تأييده. والفشل في إقرار صفقة أدى إلى إجبار رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي على الاستقالة وترك المنصب.
والزعماء الأوروبيون، في الجانب الآخر، مصرون على ضرورة توافر اتفاق الملاذ الأخير هذا. ولديهم أيضاً بعض الحق، لأن المملكة المتحدة أظهرت، عبر مفاوضات الخروج، افتقاراً إلى الجدية والإخلاص ومن ثم يصر الاتحاد الأوروبي، نيابة عن الحكومة الأيرلندية، على أنه من المسوغ قانونياً الخوف من العواقب المتوقعة لعدم التوصل إلى اتفاق تجارة جديد هناك في الوقت الملائم. وهذا التعارض لا يمكن حسمه بسهولة. فهناك جهود لإظهار قدرة «الاتفاقات البديلة» على معالجة قضية الحدود الأيرلندية، لكن هذه الجهود لا تقنع إلا قلة، ولا توجد تفاصيل صلبة لإبقائها. ولا يرجح إمكانية التوصل إلى قرار قبل الموعد النهائي لبركسيت أو في أي وقت في الواقع.
لكن رئيس الوزراء بوريس جونسون صرّح أن المملكة المتحدة ستغادر الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر المقبل، سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا. ويرى جونسون وأنصاره أن التأخير في الخروج طال أمده، وأن نتيجة استفتاء يونيو عام 2016 يجب فهمها على أن الخروج أهم من بنود اتفاق الخروج. لكن جونسون وحكومته لا يسيطران على أغلبية مؤثرة في البرلمان الذي عارض صفقة تفاوضت فيها ماي، وهو أيضاً ضد الخروج دون صفقة. وبركسيت دون صفقة سيؤدي إلى محنة هائلة تتعطل فيها، على سبيل المثال، خطوط إمداد مواد تمتد من الأدوية إلى السيارات، كما سيصبح بسببه ملايين الأشخاص في وضع قانوني غير مؤكد.
وربما لذلك السبب، جاء تعليق جلسات البرلمان، والذي يعني منعه من القيام بدور المراقب للفرع التنفيذي وإقرار التشريعات. فهنا يجري تعليق عمل البرلمان لمدة خمسة أسابيع في فترة قصيرة، لكنها حاسمة قبل موعد بركسيت. ولعل ذلك كان السبب المباشر في تمرد العديد من نواب حزب المحافظين على رئيسه جونسون، ليفقد أغلبيته في البرلمان الذي سيستأنف جلساته في كل الأحوال.
وبدلاً من رفض قرار المغادرة أو الموافقة على صفقة، فالطريقة الوحيدة التي يمكن بها تجنب خروج الآن هي أن تتفق بريطانيا والاتحاد الأوروبي على تمديد فترة التفاوض. لكن جونسون يرى أنه يتعين على بريطانيا مغادرة التكتل الأوروبي ولو دون اتفاق. ولا يمكن إقرار تمديد فترة التفاوض إلا عبر برلمان يعمل على التخلص من رئيس الوزراء أو يسن تشريعاً جديداً. وكلا الأمرين سيكون صعباً قبل 31 أكتوبر، حتى دون تعليق جلسات البرلمان. ولهذا السبب تم النظر إلى تعليق جلسات البرلمان باعتبارها هجوماً مباشراً من الفرع التنفيذي على سلطات الهيئة التشريعية. وهذه ليست وجهة نظر الخصوم الليبراليين فحسب، بل وجهة نظر كثير من السياسيين المحافظين البارزين أيضاً.
الهجمات الأساسية على فرع من النظام الحاكم ضد آخر نادرة الحدوث في الديمقراطيات الحديثة، أو على الأقل يجب أن تكون نادرة. والنظام السياسي الجيد يجب ألا يشهد خلافات دستورية كثيرة. لكن حكومة جونسون المؤيدة لبركسيت تبدو متشائمة، وقد جنحت إلى هذه الطريقة كوسيلة لفرض تنفيذ سياستها ضد أغلبية في البرلمان. وهي حيلة قد لا تجدي نفعاً، فهناك ما يكفي من الأيام يتحرك فيها برلمان عازماً على منع وقوع كارثة بركسيت دون صفقة، رغم غياب ما يضمن نجاحه في هذا. لكن ما سيترسب على أي حال هو الإحساس العميق بالخطأ من حكومة حاولت اللعب بالبرلمان، كي تمنع عملية المراقبة المشروعة والتوازن بين السلطات، وهذا لن ينتهي على نحو حسن، مهما يكن من أمر.

*محامٍ في لندن ومحرر بصحيفة «فايننشيال» تايمز»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»