في الأول من سبتمبر من هذا العام، مرت الذكرى الثمانون لنشوب أكبر الحروب العالمية وأكثرها دموية عبر التاريخ، والتي حصدت معها حياة عشرات الملايين من البشر. وذلك بعد اجتياح قوات هتلر النازية الأراضي البولندية عام 1939، ضاربةً عرض الحائط باتفاقية ميونيخ التي كان قد وقعتها ألمانيا قبل عام مع فرنسا وبريطانيا، ما دفع الأخيرتين إلى إعلان الحرب ضد ألمانيا، لتبدأ معها رسمياً الحرب العالمية الثانية.
هذه الحقيقة الواضحة كوضوح الشمس، يحاول بعض المؤرخين الغربيين، وعبر عشرات السنين، طمسها بكل فظاظة، متهمين الاتحاد السوفييتي بالتعاون مع هتلر في نشوب الحرب، من خلال توقيع الطرفين معاهدة عدم الاعتداء في 23 أغسطس عام 1939، أي قبل أسبوع تقريباً من اجتياح ألمانيا الأراضي البولندية. ونصّت تلك المعاهدة على بقاء كل من ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي على الحياد في حالة تعرض أحد الطرفين لهجوم من طرف ثالث.
هذه الاتفاقية، والتي استطاع من خلالها الاتحاد السوفييتي درء الخطر النازي ولو مؤقتاً، استغلتها الدول الغربية عبر آلتها الإعلامية الضخمة والأفلام الهوليوودية والمنشورات التاريخية المزيفة، كي تلصق اتهاماتها غير المبررة بالاتحاد السوفييتي ومن بعده بروسيا كدولة تتحمل الإرث السوفييتي، زاعمةً أن تلك الاتفاقية تحديداً هي التي أعطت هتلر الضوء الأخضر لاجتياح بولندا، ومتحينين الفرصة تلو الأخرى، حتى بعد مرور ثمانين عاماً، لاستخدامها كشمّاعة لتحميل الشعب الروسي وزر تلك الحرب ونتائجها الكارثية على الناحيتين الإنسانية والمادية.
ولو عدنا إلى الحقائق والوثائق التاريخية، لرأينا بوضوح أن التهم الغربية الموجهة للاتحاد السوفييتي آنذاك تكاد أن تكون معكوسة بالمطلق. فالمملكة المتحدة وفرنسا هما من بادرتا عام 1938 للتوقيع على معاهدة ميونيخ سيئة الصيت مع ألمانيا، في خطوة استرضائية لهتلر، إذ منحته تلك الاتفاقية الحق في الاستيلاء على أجزاء من أراضي تشيكوسلوفاكيا، وتحديداً منطقة السوديت، التي يقطنها غالبية ألمانية، مقابل تعهده بإنهاء توسعاته العدوانية في أوروبا. وللتذكير، فإن تلك المعاهدة وُقعت بمعزل عن إرادة تشيكوسلوفاكيا وشعبها الذي رفض تلك الوثيقة واعتبرها بمثابة الخيانة من قبل بريطانيا وفرنسا.
ولو عدنا بالتاريخ أكثر من ذلك قليلاً، وتحديداً إلى عام 1934، فالوثائق التاريخية تشير بوضوح إلى أن بولندا ذاتها كانت من أولى الدول التي أبرمت معاهدة عدم اعتداء مع هتلر. ووضعت خططاً للعمل المشترك مع ألمانيا ضد الاتحاد السوفييتي. وأدارت بظهرها لموسكو، معلنةً العداء الرسمي معها تحت راية محاربة البلشفية. أضف إلى ذلك فإن بولندا كانت شريكاً فعلياً مع ألمانيا في تقسيم تشيكوسلوفاكيا، مستغلةً معاهدة ميونيخ لاقتطاع أجزاء من الأراضي التشيكوسلافية، وضمها إليها.
ويجدر هنا التنويه إلى أنه طيلة ثلاثينيات القرن العشرين اتخذ الاتحاد السوفييتي موقفاً واضحاً ضد النازية، وكان ستالين يسعى بشتى الوسائل إلى بناء تحالف ثلاثي مع بريطانيا وفرنسا مضاد لهتلر، وبقيت المفاوضات الثلاثية قائمة حتى فشلت نهائياً في منتصف أغسطس من عام تسعة وثلاثين. وفيما جنح البعض إلى اتهام القيادة السوفييتية بإحباط المفاوضات واستغلالها شكلياً لحثّ هتلر على إبرام اتفاق مع الاتحاد السوفييتي، فإن الوقائع التاريخية تقول غير ذلك.
فالحقيقة الأولى، هي أن موسكو كانت أول من دعا في منتصف مارس 1939 إلى عقد مؤتمر دولي بمشاركة بريطانيا وفرنسا ودوّل أوروبا الشرقية، بعد تعاظم الخطر النازي لتوقيع اتفاقية دفاع مشتركة. لكن بولندا ودوّل البلطيق رفضت بالمطلق التوقيع على أية اتفاقات عسكرية بالشراكة مع الاتحاد السوفييتي! وهذا ما جعل الحوار أو حتى توقيع أي نوع من الاتفاقيات لا معنى له البتة، وبخاصة أنه لم تكن للاتحاد السوفييتي آنذاك أية حدود مشتركة مع ألمانيا.
والحقيقة الثانية، هي أن قيادات الاتحاد السوفييتي كانت تدرك تماماً أن الأيديولوجية النازية للرايخ الثالث والمتعلقة بـ«مكان معيشة الشعب النازي» كانت ترمي للسيطرة على المناطق الجغرافية التي تقطنها الشعوب السلافية، وهي أوروبا الشرقية والأراضي الروسية. وكانت تستشعر خطراً حقيقياً من قبل ألمانيا. فكانت موسكو هي المبادرة على الدوام لإبرام اتفاقيات دفاع مشتركة مع فرنسا وبريطانيا. وعلى العكس من ذلك، فإن لندن وباريس لم تكن عزيمتهما صادقة بإبرام اتفاقات دفاع مشترك مع الاتحاد السوفييتي، خاصةً بعد توقيع معاهدة ميونيخ التي ضمنت باعتقادهما جانب هتلر، عبر توجيه طموحاته التوسعية نحو الشرق. والدليل على ذلك واضح جداً وتمثّل بموقف بريطانيا وفرنسا بعد اجتياح الألمان لبولندا. فرغم أنهما أعلنتا الحرب رسمياً على ألمانيا بعد يومين من الاجتياح إلا أنهما لم تقوما فعلياً بأية إجراءات عسكرية ضد قوات هتلر الغازية.
والحقيقة الثالثة، هي أن الاتحاد السوفييتي التزم حالة الحياد التام التي أعلنها منذ بداية الحرب، حاله كحال الولايات المتحدة الأميركية والسويد وسويسرا وغيرها من الدول.. وتأتي هنا أيضاً بعض المغالطات التاريخية، التي يُروج لها الغرب بزعمه أن موسكو دعمت برلين في بدايات الحرب عبر التجارة معها، وتزويدها بالمعادن الخام. والجميع يعلم أن الاتفاقات التجارية في بدايات الحرب كانت سارية أيضاً بين السويد وألمانيا، وبين الولايات المتحدة وألمانيا، ولم يعتبرها أحد اختراقاً لسياسة الحياد! لا بل كانت الولايات المتحدة تربطها صفقات اقتصادية مع ألمانيا من جهة، وتزود المملكة المتحدة بالأسلحة من جهة أخرى، رغم إعلان واشنطن الحياد التام.
بدوره، التزم الاتحاد السوفييتي باتفاقياته المبرمة مع ألمانيا حتى تاريخ 22 يونيو عام 1941، وذلك عندما انتهكت قوات هتلر النازية اتفاقية عدم الاعتداء مع موسكو. وشنت هجوماً عسكرياً خاطفاً تحت مسمى عملية بارباروسا ضد الاتحاد السوفييتي، انطلقت على إثرها الحرب الوطنية العظمى، والتي كانت نتائجها دحر النازية على يد الجيش الأحمر السوفييتي وقوات الحلفاء. لتكون نقطة تحول في تاريخ البشرية بإرساء قواعد دولية جديدة وإنشاء منظمة الأمم المتحدة.
*سفير روسيا الاتحادية في دولة الإمارات العربية المتحدة.