كان هناك موجة من الرثاء «الليبرالي» على التخبط الذي أحدثه قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بحرمان عضوتين «ديمقراطيتين» في الكونجرس الأميركي من حق زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة. واتخذ الشعور بالأسى الذي أعرب عنه عدد من السياسيين والمعلقين أشكالاً متنوعة - ولكن معظمه لن يحقق النتيجة المرجوة.
وألقى بعض «الديمقراطيين» باللوم على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قائلين إن تغريدته الموجهة لنتنياهو هي التي دفعته لاتخاذ قرار الحرمان. وأعرب آخرون عن «خيبة أمل شديدة» بقرار نتنياهو، وعن قلقهم من تأثيره على الفجوة الحزبية المتزايدة بشأن المواقف تجاه إسرائيل. ولا يزال آخرون يجمعون بين هذين الشاغلين، مصرين على أن الشراكة بين ترامب ونتنياهو هي المسؤولة الوحيدة عن انهيار دعم الحزبين لإسرائيل.
هذه الآراء غير تاريخية وساذجة ومهينة لذكاء العديد من الدوائر الأميركية السياسية التي تغيرت آراؤها تجاه النزاع الإسرائيلي –الفلسطيني خلال العقود القليلة الماضية. وهي أيضاً تتجاهل، بشكل مثير للدهشة، الدور الذي يلعبه الوعي العام المتزايد بالوحشية المطلقة للاحتلال الإسرائيلي والواقع الناجم عن المعاناة الفلسطينية.
لكي نكون واضحين، في حين أن الدعم لإسرائيل، في المطلق، كان دائماً قوياً، كانت هناك دائماً فجوة حزبية منذ فترة طويلة في المواقف تجاه السياسات الإسرائيلية. وقد تجلى هذا في الانتفاضة الأولى، عندما جفل العديد من الناخبين الديمقراطيين من الرد الإسرائيلي الوحشي على الشباب الفلسطيني الذين كانوا يرشقون الحجارة. وفي المؤتمر الديمقراطي لعام 1988، بينما أظهرت استطلاعات الرأي تعاطف الديمقراطيين المتزايد مع الفلسطينيين، قمت أنا بقيادة حملة وفد جاكسون لوضع بند للسلام مؤيد للفلسطينيين في برنامج الحزب بدعم من أكثر من 1200 مندوب. وفي مواجهة الضغط الهائل من مؤسسة الحزب، طالبنا «بعدم التصويت» على البند الذي وضعناه. لكننا ما زلنا نحتفظ بحقنا في التظاهر وإلقاء الخطب على المنصة لصالح موقفنا. كانت هذه هي المرة الأولى التي تُسمع فيها آراء من هذا القبيل في مؤتمر.
وخلال التسعينيات، زادت هذه الفجوة فيما وقع الحزب «الجمهوري» رهينة لليمين الديني و«المحافظين الجدد» الذين تجمعوا لمعارضة مساعي الرئيس كلينتون لتحقيق سلام إسرائيلي- فلسطيني. في ذلك الوقت، كان تبني رئيس مجلس النواب «نيوت جينجريتش» لحزب «الليكود» هو الذي أدى إلى إصدار تشريع عرقل عملية أوسلو للسلام، وبلغ ذروته في دعوة جينجريتش لنتنياهو لإلقاء أول خطاب في جلسة مشتركة للكونجرس. واستغل الزعيم الإسرائيلي هذا الخطاب لتوضيح نيته لدفن «اتفاقيات أوسلو» حرفياً.

وفي خضم الانتفاضة الثانية، وبعد رفض جهود مبعوثيه للسلام، احتضن الرئيس جورج دبليو بوش رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون، واصفاً إياه بـً«رجل السلام»، وبينما كان بوش مستمراً في حربه المثيرة للانقسام في العراق، أهمل إلى حد كبير عملية صنع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين حتى فترة ولايته الثانية – في هذه المرحلة، خلق إهماله وتهوره ظروفاً جعلت التوصل إلى حل أكثر صعوبة. وتم تشجيع اليمين الإسرائيلي وأجندته الاستيطانية.
ومرة أخرى، أظهرت استطلاعات الرأي انقساماً حزبياً عميقاً، حيث يتضامن «الجمهوريون مع رئيسهم، ويبعد الليبراليون «الديمقراطيون» أنفسهم، ليس عن «فكرة إسرائيل»، ولكن عن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.
وازدادت هذه الفجوة مع انتخاب الرئيس باراك أوباما وعودة السلطة في إسرائيل لبنيامين نتنياهو. وساعدت الجهود الإسرائيلية، لإحباط دبلوماسية أوباما لصنع السلام، على تفاقم الانقسام. وعندما دعا «الجمهوريون» مرة أخرى نتنياهو لإلقاء خطاب أمام جلسة مشتركة في الكونجرس، هذه المرة لمعارضة الاتفاق النووي الإيراني، كان الانقسام «الديمقراطي»/«الجمهوري» واضحاً بالكامل –مع اتخاذ 60 «ديمقراطياً» لخطوة غير مسبوقة بمقاطعة الخطاب.
وعندما رشح «بيرني ساندرز» نفسه للرئاسة في 2016، أعرب عن خيبة الأمل المتزايدة للناخبين «الديمقراطيين» بدعم المؤسسات الحزبية لإسرائيل. ولأول مرة منذ وفد جاكسون في 1988، أجرينا نقاشاً كاملاً حول سياسات الاحتلال في إسرائيل.
والنقطة المهمة هي أن الفجوة بين كيفية فهم «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» لهذه القضية ليست جديدة مع ترامب ونتنياهو. لكنها تنمو منذ عقود. وهناك ملاحظتان:
أولاً، ما يبدو في استطلاعات الرأي أنه انقسام حزبي على وجهات النظر تجاه السياسات الإسرائيلية وحقوق الإنسان الفلسطينية، يخفي حقيقة أنه، في الواقع، فجوة ديموغرافية. فالاتجاهات بين «الجمهوريين» تتشكل إلى حد كبير من قبل 40% من ناخبيهم الذين يُعرفون بأنهم مسيحيون «ولدوا من جديد» وأيضاً من قبل هؤلاء الذين لديهم آراء قوية معادية للعرب والمسلمين. أما آراء الناخبين «الديمقراطيين» فيشكلها جيل الألفية وذوي الأصول الأفريقية والآسيوية واللاتينية، والناخبون من دون أي انتماء ديني – وكلهم أكثر تفضيلاً للعرب والمسلمين وأكثر تأييداً للفلسطينيين.
والأكثر من أن ترامب ونتنياهو يخلقان الفجوة، أنهما يعكسانها، ويفاقمانها إلى حد ما. فترامب هو ببساطة نسخة أكثر فظاظة من جينجريتش وبوش. ويعكس نتنياهو المواقف الإسرائيلية السائدة تجاه الاحتلال. وفي الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، لا يوجد فائز محتمل يعد بنهج مختلف تجاه الفلسطينيين. وفي الولايات المتحدة، كان هناك دائماً الانقسام بين الناخبين، لكن القيادة المنتخبة للحزب «الديمقراطي» كانت قادرة على تجاهل هذا الانقسام وتحاول إخفاءه بقرارات تحظى بتأييد الحزبين لإسرائيل.
في الأسبوع الماضي فقط، سافر 41 «ديمقراطياً» و31 «جمهورياً» إلى إسرائيل لإظهار دعمهم. وكان من المثير للاهتمام ملاحظة أن معظم «الديمقراطيين» لم ينشروا تغريدات أثناء زيارتهم. فقد كانوا يعرفون أن ناخبيهم لم يكونوا مهتمين بهذه الخطوة التي قاموا بها وربما لا يؤيدونها.
وهكذا، بدلاً من مجرد التعبير عن خيبة أمله والقلق بشأن التأثير المحتمل على تأييد الحزبين لإسرائيل، أو إلقاء اللوم على ترامب – يحتاج الليبراليون إلى إدراك بعض الحقائق. لقد كانت الفجوة الحزبية موجودة منذ عقود وأسبابها هي السياسات الإسرائيلية التي فرضت صعوبات لا تحتمل على الفلسطينيين، وجعلت تحقيق السلام أكثر صعوبة. كما تم تمكين الاحتلال الإسرائيلي من خلال تشجيع «الجمهوريين» وجبن المؤسسة «الديمقراطية» على التحدي. والجديد هو أن أصوات الناخبين «الديمقراطيين»، الذين خاب أملهم منذ وقت طويل بسبب معرفتهم بقيادتهم، لديهم الآن من يستطيع الكشف عن هذا الانقسام، بل وإخراجه إلى العلن.
* رئيس المعهد العربي الأميركي - واشنطن