تأتي الذكرى الخمسون لجريمة إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969، فيما تشهد ساحات المسجد الأقصى مواجهات شبه يومية بين المصلين وقوات الأمن الإسرائيلية التي عادة ما ترافق جموع اليهود المتطرفين الذين ينسلون إليه من كل حدب وصوب عائثين فيه فساداً وتخريباً. وقد باتت هذه الاقتحامات والانتهاكات شبه يومية وترتفع وتيرتها بهذه الأعداد الكبيرة المقلقة مع مواسم الأعياد الإسلامية، بقوة تحركات أحزاب ومنظمات توراتية استيطانية متنامية، وبقرار سياسي ودعم مباشر من الحكومة الإسرائيلية ورئيسها نتنياهو الذي يبدو أنه يلعب بالنار على طريقة سلفه شارون في عام 2000، لخدمة أجندات اليمين التوراتي الفاشي. هذا إضافة إلى رغبته في تقديم مزيد من القرابين على مذبح انتخاباته القادمة وتحويل النظر عن فضائحه الشخصية والعائلية، ووضع ورقة القدس في إطار المراهنات والمزايدات والاستثمار السياسي للأحزاب اليمينية، عقب فشله في تشكيل الحكومة وحل الكنيست، في خطوة تهدف إلى تغيير الوضع الراهن، الذي كان حتى عام 2000 يمنع –على سبيل المثال- أي إنسان من دخول المسجد الأقصى إلا بإذن من الأوقاف وحراس المسجد، مثلما كان يمنع دخول جولات سياحية خلال العشر الأواخر من شهر رمضان.. في منحى خطير ينذر بعواقب وخيمة ويؤشر إلى مرحلة في غاية الخطورة.
وتشتمل هذه المواجهات على اقتحامات وانتهاكات لحرمة الأماكن المقدسة، الإسلامية والمسيحية، واعتداءات على المصلين والمعتكفين الآمنين في المسجد الأقصى من نساء وشيوخ وأطفال، ومنعهم من أداء فرائضهم الدينية وملاحقتهم داخل المسجد وإلقاء قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي واعتقال بعضهم، كما حدث في عدوان جيش الاحتلال الدموي على عشرات الآلاف من المصلين في المسجد الأقصى المبارك ورحابه بعد صلاة عيد الأضحى الأخير، قبل أيام من الآن، وقبل ذلك داخل المصليين القبلي والمرواني في رمضان الذي سبقه، وضرب الحراس وعدم السماح بإسعافهم.. وذلك كله بحماية القوات الخاصة وحرس الحدود والشرطة المدججين بالأسلحة، وإغلاق المسجد القبلي بالسلاسل الحديدية وإدخال مئات المستوطنين إلى ساحاته، ليقوموا باستفزاز المصلين بأساليب مختلفة كالغناء والرقص الماجنين.
هذه الاعتداءات والاقتحامات الممنهجة لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، والتي تأتي ضمن اعتدائهم المتواصل على «أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين» وعلى هويته الإسلامية، والتي مهد ويمهد لها الاحتلال من خلال حملة اعتقالات متكاثرة في صفوف المقدسيين.. فيها تجاوز لكافة الخطوط الحمراء، كما أنها تشكل استفزازاً علنياً لمشاعر ملايين المسلمين في فلسطين والعالم أجمع، كما تشكل تحدياً للقوانين الدولية، فضلاً عن كونها تكرس في الوقت ذاته نموذجاً صارخاً لطبيعة الاحتلال الإسرائيلي القائمة على التمييز العنصري واللجوء إلى القوة وسفك الدماء في سبيل تحقيق الأهداف الاستعمارية للمشروع الصهيوني، بما في ذلك الضغط على أبناء مدينة القدس لمغادرتها، وإخلائها من سكانها الفلسطينيين، وزرع العوائق أمام المصلين القادمين من أنحاء المناطق الفلسطينية إلى المسجد الأقصى، في سياق المشروع الإسرائيلي التلمودي بتهويد مدينة القدس.
اليوم، وفي هذه المرحلة، نحن لا نعتقد أن حكومة إسرائيل (وطبعاً على عكس بعض وزراء وأحزاب ومنظمات اليمين التلمودي الفاشي) هي بصدد السماح بتدمير الأقصى حرقاً أو نسفاً أو قصفاً. وهذا الموقف ليس «كرماً» من إسرائيل، وإنما لأن «الظروف لم تنضج بعد» وفق حساباتهم السياسية. فالعالم الإسلامي على ضعفه، ما تزال به بقية من روح لن تسمح بحلول قصوى من هذا النوع. وكذلك الحال مع غالبية دول العالم والرأي العام الدولي ومؤسساته ومنظماته الأممية.
ثم إن جهود (27) جمعية يهودية (ومن الناشطين فيها وزير الزراعة المستوطن أوري أرئيل، كما أكدت جمعية «عيم عميم» الإسرائيلية في تحقيق أنجزته قبل خمس سنوات)، تعمل بدعم من (6) وزارات إسرائيلية من أجل بناء «الهيكل الثالث» على حساب المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لم تصل بعد إلى حد تجاوز الظروف الراهنة آنفة الذكر.
وعليه، نعتقد أن كل ما عرضنا له من تحركات وجهود أعلاه إنما يأتي في إطار العمل على فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، تمهيداً للسيطرة عليه وتهويده كما حصل مع الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، وفرض أمر واقع جديد، كمرحلة أولى، تليها مرحلة قد تجهز على كامل القدس الشرقية بما فيها البلدة القديمة بجميع جوامعها وكنائسها.
إنهم يسعون، في نهاية المطاف، إلى تهويد المسجد الأقصى بكامله، رغم كفاحات وبطولات أبناء شعبنا المرابط الذين سطروا أروع معاني الصمود برفضهم الانصياع للضغوط الإسرائيلية، وبتحديهم لإجراءات الاحتلال، ودفاعهم عن أرضهم ومقدساتهم، وتوجيههم أبلغ الرسائل للعالم وللإدارة الأميركية بأن اعترافهم بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال لن ينجح. فالمسجد الأقصى، بمكانته لدى مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، هو ملك خالص للمسلمين وحدهم، وغير قابل للمشاركة ولا التقسيم، وأي انتهاك لحرمته هو اعتداء على مشاعر المسلمين في العالم أجمع، وليس في فلسطين وحدها. بل هو استهتار صارخ بقرارات القمة الإسلامية الأخيرة التي لم يجف حبرها بعد!

*كاتب وباحث سياسي