تعمل التحولات في الموارد والأعمال والتكنولوجيا على نحو عام لصالح الأكثر استعداداً وتنظيماً والأكثر مالاً وموارد، لكن هؤلاء الذين لم يستفدوا من الفرص ولم يشاركوا فيها ليسوا بمنأى عن تحدياتها وخسائرها، فهي ليست فقط لا تعمل لصالحهم، لكنها تفقدهم مواردهم وأعمالهم وأسلوب حياتهم، وهكذا إذا كان عدم المشاركة في فرص العولمة والشبكية اختياراً ممكناً، فإن النجاة من شرورها ليس اختيارياً، ولذلك فإن الإبداع في العمل والحكم الرشيد مستمد من القدرة على ملاحظة وتقدير ما يحدث، وما يمكن عمله قبل وقوع الحدث أو في أثناء حدوثه، ففي كثير من الأحيان تكون الحكم والدروس المستفادة بعد وقوع الأحداث والتحولات لا تفيد إلا قليلاً.
ومازالت التجارة العالمية والوطنية تعاني من أزمة عام 2008 وتحاول الخروج منها، وبرغم أنها فترة طويلة مضت فإنها أنشأت واقعاً جديداً يصعب الرجوع أو التخلي عنه، فقد دخلت الاقتصادات في ركود مديد، وجرت معها النواتج الإجمالية، وتوليد الأعمال والوظائف، والتي تعاني من تحديات قاسية بسبب الإحلال التكنولوجي بدلاً من العمل البشري.
استطاعت مجموعة من الدول زيادة نموها الاقتصادي بين عامي 1990 – 2015 اعتماداً على سلسلة التكامل والتعاون في التجارة الدولية، مثل الصين والبرازيل وغيرهما، وأنشأت دول فرصاً جديدة أو متعاظمة مستمدة من تخصصه في مجال يخدم التكامل الدولي، مثل المنتجات الزراعية في مدغشقر، والموارد الطبيعية في تشيلي، والتصنيع البسيط منخفض الكلفة والاستخدام التكنولوجي في المكسيك، والتكنولوجيا المتوسطة في الهند وسنغافورة، كما استفادت الدول المتقدمة مثل اليابان والولايات المتحدة وألمانيا في إنتاج مجموعة من السلع والخدمات المبتكرة، وقد تطور الاعتماد المتبادل في الأعمال والخدمات مستفيداً من فرص الشبكية، وأحياناً يبدو ذلك طريفاً، مثل قراءة ومراجعة الصور الطبية التي تجري في المستشفيات الأميركية في الهند، وكذا الرد على المكالمات الهاتفية والاستعلامات وأعمال الحجز للسفر والفنادق، وأعمال التصميم والمحاسبة.
وفي حين يبدو مربكاً ومحيراً للاقتصادات خاصة الصغيرة والنامية أن تبحث عن مكان وشراكة في السوق العالمية، وما يمكنها أن تضيف، إذ لم يمكن يشغلها السؤال من قبل عندما كانت الاقتصادات الكبرى للدول والشركات تفكر لها وتعتمد عليها في عمليات التكامل والسلاسل الاقتصادية والإنتاجية، لكن الاقتصادات الكبرى نفسها تمضي في الارتباك والتقشف والسعي للاعتماد على الأسواق المحلية، هكذا فإن الدول الصغيرة تواجه سؤالاً صعباً ومزعجاً، ولا تملك سوى أن تقلل الاستيراد، وتزيد الضرائب والقيود والرسوم الجمركية، فتضيف إلى الاقتصاد العالمي مزيداً من التحديات.
لقد ترسخت الأسواق على مدى القرون، وتراكمت الأعمال في سلسلة من الثقة والاعتماد المتبادل والمشاركة بين الأطراف والمؤسسات المنتشرة حول العالم، وعلى أساس بسيط وواضح هو ما يمكن أن يقدمه كل شريك بأقل تكلفة وأفضل مستوى ممكن، وهي أيضا القاعدة التي يجب أن تشغل جميع الأمم اليوم، ماذا يمكنها أن تضيف إلى العالم؟ والسؤال وإن كان بديهيا ويعمل على مدى التاريخ، فإنه اليوم يبدو أكثر صعوبة، بل وكأنه يطرح للمرة الأولى بالنسبة لكثير من الأمم التي كانت تشارك وتستفيد وتفيد على نحو تلقائي، لتفيق فجأة وتجد العالم ليس كما تعودت عليه وكما كانت تشارك فيه من قبل.
وعلى سبيل المثال، فإن أنظمة الملكية الفكرية التي بدأت تطبق على نحو حازم وشامل لم تدع مجالاً للتكنولوجيا والسلع قليلة الكلفة، وفي المقابل فإن دولاً وشركات وبنوك صارت تجني أرباحاً وعوائد هائلة على طريقة لعبة «احتكار» لم تكن إيراداتها سوى امتيازات، وهي إن كانت تستند إلى القوانين المنظمة للتجارة، فإنها أيضاً تلحق بنفسها وبالأسواق والمجتمعات ضرراً كبيراً، بل إن الضرر امتد إلى المزارعين وصغار المنتجين، وتحولت الزراعة التي كانت تتضمن مجموعة من الأعمال غير المكلفة مثل إنتاج البذور إلى احتكارات للشركات!
تبدو فيتنام نموذجاً للنجاح والقدرة على السؤال والإجابة في سياق الفرص والتحديات، إذ تحولت إلى مصدر مهم للهواتف الذكية، حيث تنتج 40 في المائة من هواتف سامسونج، وتوظف 35 في المائة من موظفيها، ويعزى نجاحها في ذلك إلى تفاهمها مع الولايات المتحدة الأميركية (يا للمفارقة التاريخية!) والكلفة المنخفضة للأيدي العاملة، وتوظيف قربها الجغرافي من دول مهمة في قطاع الإلكترونيات، الصين وكوريا الجنوبية واليابان.
وبرغم كل الظروف والتحولات، تظل الدول الكفوءة والفاعلة في الخدمات التعليمية والصحية والنقل والمرافق العامة ساحة مهمة وجذابة للاستثمارات الأجنبية، إنها قاعدة لم تتغير ولم تتبدل، وأفضل استعداد ممكن لمواجهة حالة عدم اليقين المهيمنة اليوم على السياسة والتجارة.