حينما يجري الحديث عن اقتصاد المعرفة في الإمارات، كخيار مهم في المستقبل المنظور، وعن الطاقة النظيفة أو الطاقة المتجدّدة، وتجد لها ملموسات في الواقع، وعن الحديث عن الشباب كرمز للغد الموعود بقوة الازدهار، فإن القضية واضحة ولا لبس فيها، وتتمثل في حقيقة أن التقدم هو المنشود، ولا تقدم إلاَّ بالعلم. وهذا ما يجعل المرء يؤكّد على حقيقة باتت معلومة، وهي أن من كان متقدماً سيكون مستقلاً، ومن كان متخلفاً سيظل مستعمراً، فالتقدمُ العلمي هو معيار تحرّر الشعوب واستقلالها. التاريخ أكد ذلك، والمجربون الوطنيون الاستثنائيون، قالوا بذلك.
في كتاب (زيارة جديدة للتاريخ) يتساءل الكاتب والمفكر الراحل محمد حسنين هيكل، قبل أن يتساءل قراؤه من بعد إطلاعهم عليه: هل كان (نهرو) مكشوفاً عنه الحجاب؟ ونهرو هو (جواهر لال نهرو) رئيس وزراء الهند وأحد أبرز مفكريها. يأتي تساؤل هيكل بعد حضوره واستماعه إلى خطاب نهرو الذي ألقاه في مؤتمرٍ دول عدم الانحياز في باندونج عام 1955م، واصفاً إياه على طريقته أنه (درسٌ قدمه أستاذ لرؤساء انصتوا وكأن على رؤوسهم الطير). والخطاب لمن اطلع عليه كان حقاً كذلك، تنبأ فيه نهرو بالكثير مما يحدث في الزمن الراهن.
المرور على فقرات من ذلك الخطاب التاريخي المشحون بالروح التي سادت زمن الاستقلالات الوطنية في منتصف القرن الماضي، لا تخلو من فائدة. يقول نهرو مخاطباً الزعماء والرؤساء: (قلت لكم أنكم تثيرون فزعي، لأن بعضكم لا يرى ما هو أبعد من مواقع أقدامه، تشغلون أنفسكم باللحظة التي مضت وليس باللحظة المقبلة: تطلبون الاستقلال، حسناً، تطلبون الحرية، حسناً أيضاً، سوف يعطونكم ما تطلبون، وسوف يوقعون معكم، لم يعد في ذلك شك لأسباب كثيرة، أولها، أنه لم يعد في مقدورهم أن يسيطروا عليكم بالسلاح، ولسبب ثاني، هو أنهم لم يعودوا راغبين في السيطرة عليكم بالسلاح. سوف تتولون المسؤولية وسوف تجدون أنفسكم رؤساء لشعوبكم، لديكم كل شيء تحتاجونه. ليس هذا هو المهم، هل ستجدون لديكم السلطات الفعليّة؟ لست متأكد من ذلك). وينبّه نهرو إلى الأقليات العرقية والدينية والمنتفعين:(سوف تجدون في بلادكم طبقات أكثر قوة من جماهير شعوبكم، لأنهم تعلموا كيف يتعاملون مع النظام القديم المستعمِر وفي ظله وفي حماه كوّنوا ثروات ورتبوا مصالح، فإلى من سوف تنحازون؟ إلى القلة القوية أم إلى الأغلبية التي تنتظر جوائز الاستقلال؟). وبينَ لهم في خطابه أنهم سيجدون أنفسهم أمام مشكلات عديدة، ومن أجل حلها.. يقول (سوف يندفع بعضكم إلى أن يطلب من صندوق النقد الدولي أو من البنك الدولي قروضاً، هل سألتم أنفسكم من يسيطر على الصندوق والبنك؟ إنهم الجلادين السابقين أنفسهم.. إن جريمة الاستعمار تزيدها القروض سوءاً). ومضى نهرو مندفعاً في خطابه إلى أن يختمه بالقول (إن السيطرة الجديدة، لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم العلمي.. أنتم متقدمون إذن أنتم سادة. أنتم متخلفون، إذن أنتم مقهورون، مهما وقعتم من قصاصة، ومهما رفعتم من قماشة).