سيطر على الإعلام الأميركي وحتى في بعض أجزاء العالم خبر المذابح التي راح ضحيتها في 24 ساعة تقريباً 31 قتيلاً وحوالي ثلاثة أضعاف هذا العدد من الجرحى. وكان مسرح هذه الأحداث مدينة «دايتون» في ولاية أوهايو في الشمال الشرقي ومدينة «إل باسو» بولاية تكساس في أقصى الجنوب وبالحدود المشتركة مع المكسيك. حتى في بلد يُسيطر عليه العنف لدرجة أنك لا تتطرق لبعض الأحياء في مدن كبيرة مثل شيكاغو أو نيويورك، فقد هزت هذه الأحداث أميركا.
قد تبدو هذه المذابح أحداثاً داخلية في بلد اعتاد على العنف، وهي فعلاً كذلك.. ولكن على السطح فقط، المهم إذن هو لفت النظر إلى تداعياتها العالمية من ناحيتين على الأقل: الأسباب والنتائج.
أولاً: الأسباب هي جماعية وعقائدية وليست بالمرة فردية، وقد حاول الرئيس الأميركي تأكيد الناحية الفردية ومسؤولية المرضى عقلياً، ولكن الاتجاه الغالب بناء على معظم الأسانيد البرهانية هي تأكيد زيادة عدد المنتمين لتيار اليمين العنصري الأبيض المتطرف، والذي أثبت وجوده في سنة 1995 مثلاً عندما نسف المتطرف العنصري الأبيض «تومي ماكفاي» مبنى حكومياً في ولاية أوكلاهوما شمال تكساس وقتل 169 فرداً، بينهم 18 طفلاً وأصاب المئات بالجراح، ومن أهم الإحصائيات أن المعدل بين القتل بوساطة «الإرهاب الإسلامي» والإرهاب العنصري الأبيض هو 1 إلى 49، ولذلك لم يكن هناك مفر من أن تُدرج وكالة التحقيقات الفيدرالية الأميركية «الإرهاب المحلي» من جانب هذه المجموعة العنصرية كخطر قومي.
المهم أن ندرك أيضاً أن هذا اليمين العنصري المتطرف ما هو إلا جزء من حركة عالمية، فالمانيفستو الذي وضعه على الإنترنت مجرم «إل باسو» يُشيد بما قام به الإرهاب الأسترالي الذي هاجم مسجداً في مدينة في نيوزيلندا وقتل 51 مسلماً أثناء قيامهم بالصلاة. كما أن الموقع الإلكتروني 8chan والذي يديره أميركي يُقيم في الفلبين - هو من نشر المانيفستو ويربط هؤلاء البيض المتطرفين عالمياً وتم إغلاق هذا الموقع بعد الحادث.
لا يتسع المقام لتحليل الأذرع المتعددة لهذا الأخطبوط العالمي، حتى الوصول إلى البلاد الإسكندنافية التي هي عادة ذات طبيعة متسامحة وأبواب مفتوحة للمهاجرين. ولكن القاتل من «إل باسو» يُؤكد أن المسؤولية في حماية العنصر الأبيض تقع على الأميركيين البيض، لأن الأوروبيين مثلاً ليس لديهم القوانين التي تضمن لهم حمل السلاح كحق دستوري.
ثانياً: التداعيات، وهي عالمية أيضاً رغم ما يبدو من عملية المذبحة، وهو في الواقع الجزء الذي يتم إهماله في تحليل هذا الحدث، ترجع هذه الصبغة العالمية لمكانة الولايات المتحدة التقليدية كونها القوة الأعظم وكل المؤشرات من عسكرية واقتصادية وحتى ثقافية واضحة في هذا الشأن. ولكن جاءت هذه المذابح لتجعل الاهتمام بالسياسة المحلية من جانب النخب المختلفة في هذا البلد مسيطرة، حتى إن الانتخابات الرئاسية لن تجرى إلا في نوفمبر من العام القادم - أي 15 شهراً من الآن! ومع ذلك يُعطي انشغال النخبة السياسية - حكومة ومعارضة - انطباعاً مختلفاً بالمرة.
النتيجة إذن إننا على مستوى القيادة العالمية نجد فراغاً كبيراً. فالقائد الطبيعي ليس فقط مشغولاً بهمومه المحلية ولكنه أيضاً يفقد الكثير من رصيده العالمي بسبب تدهور مستوى النقاش السياسي، حتى داخل البيت الأبيض نفسه، وكذلك عدم وجود قائد عالمي يملك الموارد المادية والانتشار الثقافي ليحل محل واشنطن، هناك إذن فراغ في القيادة العالمية، مثلنا في ذلك مثل فريق موسيقي من دون المايسترو، والنتيجة ليس تناغماً وانسجاماً بل هي ضوضاء وصخب يؤلم الآذان على مستوى الحوكمة العالمية. كان الله في عون العالم مما يحدث حالياً في قمته الأميركية.