من الطبيعي أن ينطوي خطاب المتطرفين على مبالغة، ويزيد الأمر حين يكون التطرف على أساس ديني، إذ إن النصوص التي يتم الاستناد إليها في تأويلات متجاوزة، هي نصوص بليغة في حد ذاتها، ويتم استدعاؤها لتؤدي دوراً ملموساً في توظيف اللغة من أجل تزيين الخطاب، وتبرير المسلك العنيف.
لكن كون هذه النصوص متاحة لتأويلات مغايرة، فإن هذا يحد من توظيفها الكامل في تلك المبالغات، لتظهر أدواراً أخرى لآراء السابقين من الفقهاء والمفسرين ومنتجي الآداب السلطانية، فتتم استعارتها لتسند تلك المبالغات وهي طيعة طيلة الوقت، إذ تطلق في خطاب آني، وتتم إذابتها فيه، لمعالجة سياقات راهنة، وهي تأخذ أشكالاً متعددة بدءاً من التناص وحتى الاقتطاف، بل السطو على هذا المنتج اللفظي، لينسب إلى الذين ينطقون به حالياً.
في المقابل، تهمل تلك الجماعات التراث البلاغي العربي الصرف؛ لأنه ينطوي على أساليب للحِجاج والاختلاف والإقناع، بينما هي تميل إلى السمع والطاعة، وتعتبر الحِجاج جدلاً، وتنفر من احتوائه على تأويلات عدة، تنتفح بها المعاني على فضاءات رحبة، حيث تفضل هي القول الواحد المقطوع زعماً بصحته، علاوة بالطبع على أن بعض البلاغيين العرب كانوا ينتمون إلى تيار لا يحبذه المتطرفون، بل يستهجنونه ويكفرون أصحابه، كالمعتزلة والفلاسفة والمتصوفة.
وحضور اللغة في خطاب هؤلاء لا يقف عند حد الاستعانة بالكلمات ذات الإيقاع المدوي التي يدقون بها طبول حرب دائمة، إنما تتوالى سلسلة من المجازات لا تنتهي، كأن يتحدث سيد قطب عن «الجيل الفريد» و«الجيل الرباني» و«الغرب الحاقد» و«المجتمع الجاهلي»، ويقسم أسامة بن لادن العالم إلى «فسطاطين» ويرى الرجل الثاني بعده في تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري أن أتباعهما «فرسان تحت راية النبي»، وتتحدث «داعش» عن «إدارة التوحش».
ويسري هذا في فضاء مشروع مجازي بالأساس نظراً لعدة اعتبارات، أولها أن الجماعات الدينية المتطرفة تستدعي ماض لن يعود، وثانيها أن قادة هذه الجماعات يستعملون لغة معجمية غير متداولة تغلب عليها النزعة العاطفية، ويظنون أنها تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تقوم بها في الماضي، وثالثها أنهم يضفون بطولات أسطورية على شخصيات تاريخية، فراوي الحديث يصبح ذا ذاكرة فولاذية، والمقاتل يبقى جسوراً قادراً على أن يصرع المئات، والفقيه يصيح «حجة الإسلام» و«شيخ الإسلام»، وهكذا.
أما الاعتبار الرابع، فإن هذه الجماعات مغرورة، لديها شعور زائف بالقوة، والقدرة على فعل أي شيء، في أي وقت، وأي مكان، فهم يرون أنفسهم «الفرقة الناجية» و«أصحاب الحق» و«السائرون على الطريق المستقيم» و«جيل النصر المنشود»؛ ولذا فإن السماء ترعاهم.
والخامس هو أن خطاب هؤلاء يبتعد عن الواقع حين يريد أن يعينه، حيث يصف واقعاً غير موجود، وقد يجمل الواقع الموجود، أو يخترع واقعاً من خيالاته، وأحياناً يُقبّحون واقعاً لا يمضي لصالحهم، فيطلقون آليات التشويه والتجريس بشهية مفتوحة. وتتجلى مظاهر المبالغة في خطاب المتطرفين من خلال الاتكاء على الحروف أثناء الكلام، لتخرج فخيمة، والميل إلى الكلمات ذات الجرس الموسيقي الصاخب، ليكون لها وقع على الآذان، والإفراط في استخدام الكلمات الحادة والقاطعة، وإرداف هذا بلغة جسدية تنزع إلى استعراض القوة، مع إدراك «سحر البيان»، فهم يؤمنون بأن معجزة القرآن هي البلاغة، وأن مكمن تأثيره على العرب كان فيها، وهم قوم اشتهروا بالفصاحة وذرابة اللسان، ولا يكتفي المتطرفون هنا بالاستعانة بآيات القرآن، وتفاسيرها، إنما يحاولون أحياناً مضاهاتها، بخطاب مسجوع، فهؤلاء لا يملكون، في حقيقة الأمر سوى اللغة، فهي التي تمنحهم القدرة على تقديم أنفسهم ك «وعد» وهم خارج السلطة، ويظنون أنها تغنيهم عن تقديم برامج حقيقية وهم في السلطة.
وحين يحول المتطرفون الدين إلى أيديولوجيا يزداد هذا الحضور المجازي بقدر ما في الأيديولوجيات من خيالات وابتعاد عن المنطق أو الحسابات المدروسة بدقة، والميل إلى تضخيم الفكرة ودور معتنقيها وفتح باب الأمنيات أو الأحلام إلى مصراعيه. كما أن من يحمل السلاح من هذه الجماعات في حاجة إلى استخدام لغة مشبعة بالمبالغة، تشحنه معنوياً قبل الذهاب إلى ميدان المعركة، أو تجهيزه للقيام بعملية إرهابية.