خصص البنك الدولي تقريره السنوي عن التنمية في عام 2020 لسلاسل القيمة العالمية، بما فيها من عمليات تجزئة العمل وتكامله بين وحدات عمل وإنتاج موزعة على مؤسسات ونقاط عمل منتشرة حول العالم، والتي صعدت على نحو سريع ومؤثر منذ عام 1990 لتحرك اقتصادات نامية جديدة مثل الصين وبنجلاديش وشرق آسيا، وتنشئ منظومة دولية وإقليمية للتجارة الدولية، مثل التكامل بين المكسيك والولايات المتحدة وكندا (نافتا)، وبين الصين وجنوب شرق آسيا والشرق الآسيوي الأقصى، وأنشأت تقارباً غير مسبوق بين الدول والأقاليم، وأمكن لأكثر من مليار إنسان أن يتخلص من الفقر، وأن تتحسن حياة نسبة كبيرة من سكان العالم.
لكن سلسلة الإنتاج والتجارة الدولية والمتكاملة بدأت تواجه تحديات بسبب الركود الكبير الذي عصف بالعالم في عام 2008، وبعد تحسنها قليلاً منذ عام 2011 عادت منذ عام 2016 تتراجع، إذ بدأ النمو التجاري يتباطأ، ويجر سلاسل القيمة العالمية للانكماش، كما ظهرت تحديات أخرى ناشئة عن عمليات الأتمتة والتقنيات البديلة لليد العاملة مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد والروبوتات، والتي أنشأت أنماطاً جديدة من العمل والعلاقات التجارية المؤثرة في طبيعة وبنية سلاسل التوريد والتجزئة.
يخلص تقرير البنك الدولي إلى أن سلاسل القيمة العالمية يمكن أن تواصل عملها بنجاح، وتنشئ فرص عمل جديدة وتساعد في التنمية ومواجهة الفقر، لكن تحتاج الدول النامية إلى أن تجري عمليات إصلاح عميقة، وأن تتبنى الدول الصناعية سياسات تشاركية أكثر جدوى وأن تستوعب التغيير التكنولوجي في بناء أعمال وفرص جديدة.
لقد نمت عمليات التكامل بسبب تطور تقنيات الاتصالات والمعلومات والنقل، والتي صاحبها أيضاً تخفيض الحواجز التجارية بين الدول والمصنعين والمنتجين، ما شجع قيام سلاسل من الأعمال التجارية والصناعية المتكاملة والمنتشرة في العالم لكنها تعمل بتكامل وتنسيق كأنها في مكان أو مصنع واحد. وقد أتاح تقسيم العمل والإنتاج مزيداً من التخصص والحرفية وفتح آفاقاً جديدة للشراكة والتطوير في الأعمال والمنتجات والسلع، ومكّن الدول والمجتمعات النامية من الاندماج في الاقتصاد العالمي واستيعاب التكنولوجيا الحديثة والمتقدمة.
تحتاج سلاسل القيمة العالمية بما هي عمليات التكامل التجاري والإنتاجي إلى تطوير ومواكبة لتنتقل إلى مراحل وخدمات أكثر تقدماً، وهذا يقتضي بطبيعة الحال مهارات ومعارف متقدمة وجديدة، وسلع وخدمات مبتكرة، تجعل للتكامل جدوى وأثراً حقيقياً في زيادة قيمة المنتجات وتقليل كلفتها، وفي الوقت نفسه تعود بالفائدة والنمو على الدول والمجتمعات المشاركة. فتظهر بيانات الخدمات والسلع المتداولة في عام 2017 أن 65 في المائة منها لم تكن موجودة في عام 1992.
وقد أدت الحوسبة والأتمتة إلى تقليل الأيدي العاملة في المؤسسات والمصانع، وبطبيعة الحال فقد خفض ذلك الطلب على العمل والتشغيل في الدول النامية، وصار في مقدور الشركات أن تنشئ خطوط عمل وإنتاج قريبة منها وبتكلفة أقل، لكن في الوقت نفسه فقد أدت عمليات التشغيل الآلية والطباعة ثلاثية الأبعاد إلى زيادة الطلب على مدخلات وسلع مستوردة من الدول النامية، ولكن السوق الصاعد من خلال المنصات الشبكية أثر سلباً على توزيع المكاسب المتأتية من الأعمال والتجارة، وجعلها محصورة بيد فئة قليلة من الأشخاص والمؤسسات، ومازالت عمليات تنظيم الاستثمار الأجنبي وخدمات النقل والاتصالات تواجه قيوداً كثيرة، وتتفاوت الدول في مستوى تسهيل الإجراءات والضرائب على المستثمرين والخدمات.
ومن الاقتراحات والأفكار، التي طبقت في السنوات الماضية مشروعات المدن والمناطق الاقتصادية الخاصة لأجل إنشاء بيئة مميزة للأعمال، وبطبيعة الحال فإن الأعمال المتقدمة تحتاج إلى خدمات متقدمة كالموانئ والمطارات، وتدريب متقدم ومتواصل للعمال للتكيف مع متطلبات الأسواق والتكنولوجيا، ومنظومة تشريعية وتنظيمية لحماية الحقوق والملكيات والحفاظ على البيئة، وهناك دور مهم جداً وأساسي للسياسات الوطنية في التنمية الإنسانية في التعليم والصحة، فلا يمكن أن تزدهر الأعمال والاستثمارات الأجنبية كما الوطنية بالطبع إلا في بيئة متقدمة من الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية.
وبرغم المكاسب السريعة اقتصادياً ووطنياً لعمليات الحماية التي اتبعتها الولايات المتحدة بقيادة ترامب، يبدو أن بريطانيا تسير في الاتجاه نفسه، فإنه على المدى المتوسط سترتفع كلفة الإنتاج والتشغيل وأسعار السلع والخدمات وتتضرر التجارة الدولية، كما تتضرر منظومة الثقة التي يسعى العالم في تعزيزها لأجل تشجيع الإنفاق والاستهلاك والسياحة كما الاستثمار المغامر وتقليل التوتر والتطرف والعنف والكلف والأعباء المالية والأمنية، كما تزيد الخلافات بين الدول الكبرى، وتتغير عمليات تطبيق معاهدات وأنظمة التجارة العالمية والالتزامات التجارية التقليدية. ولذلك فإن الأزمة الاقتصادية مرشحة للعودة في موجة أشد خطورة من الوضع القائم، ويقدر البنك الدولي أن الدخل العالمي سينخفض حوالي 1.4 تريليون دولار. هكذا فإن العولمة والشبكية لم تكن حلاً متقدماً وتلقائياً، كما بدا الأمر في أوائل التسعينيات، لكنها أيضاً مازالت واعدة بالتقدم والحلول والأفكار الجديدة.
*كاتب وباحث أردني