تحدثنا الأسبوع الماضي، عن بعض من المميزات الاستثنائية لعقدين من حكم جلالة الملك محمد السادس، وهي فترة جعلت من المملكة بلد الاستقرار والانفتاح السياسي والتأقلم الدائم مع المستجدات الداخلية والخارجية. ولا غرو أن هذا الاستثناء هو الذي يطعم شرايين التنمية بسياسات عمومية متجددة تقبل النقد الذاتي البنّاء، وهذا ما تجلى في خطاب الملك الأخير بمناسبة عيد العرش، عندما قرر إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، مراعياً في تركيبتها مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد.
وستأخذ هاته اللجنة بعين الاعتبار التوجهات الكبرى، للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها، في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة، والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي، وستقدم اقتراحات بشأن تجويدها والرفع من نجاعتها. ويقول جلالته، في هذا الصدد: «إننا ننتظر منها أن تباشر عملها، بكل تجرد وموضوعية، وأن ترفع لنا الحقيقة، ولو كانت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول. إن الأمر لا يتعلق بإجراء قطيعة مع الماضي، وإنما نهدف لإضافة لبنة جديدة في مسارنا التنموي، في ظل الاستمرارية». وبموازاة ذلك، دعا جلالته في خطاب العرش الحكومة للشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عماداً للنموذج التنموي، في صيغته الجديدة.
ومن يعرف أبجديات تقييم السياسات العمومية، يفقه جيداً أن الالتزام والمسؤولية، في تدبير الشأن العام، والتجاوب مع انشغالات المواطنين من مقومات نجاح أي سياسة من السياسات الداخلية أو الخارجية للبلد.
ثم لا جرم أن المغرب فرض اليوم ذاته كفاعل أساسي، سواء على الصعيدين السياسي والدبلوماسي أو في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. والتنمية متعددة الأبعاد التي حققها البلد، يقدم من خلالها للعالم أجمل صورة عن بلد من بلدان الجنوب مختلف عن الآخرين. وكان المغرب، منذ قرون، صلة وصل بين أوروبا المتوسطية وأفريقيا، ولا يجب أن ننسى المقاربة الشمولية التي تؤدي إلى تعزيز قواعد الإسلام المعتدل والوسطي، لا سيما من خلال تكوين الأئمة القادمين من العديد من الدول العربية والأفريقية، بل والغربية، وفقاً لتعاليم المذهب المالكي، فالمملكة المغربية ظلت أرض الاستسقاء والتزود والإرواء الروحي، وقبلة لتكوين العلماء الأفارقة، وصدّر المغرب نموذجاً دينياً وسطياً معتدلاً مبنياً على ركائز مقبولة عند الخاص والعام، وانتشر المذهب المالكي في العديد من الأمصار والأقطار الأفريقية، كما تأثرت الدول الأفريقية بالكتابة العربية والخط المغربي، كما أن مؤلفات العلماء المغاربة عرفت قبولاً في الصدور والأفئدة ورواجاً واسعاً.
ولتأكيد هاته العلاقة الوطيدة كان الملك الحسن الثاني، رحمه الله، دائماً ما يستعمل صورة مجازية عن العلاقة التاريخية بين المغرب وأفريقيا، واصفاً المملكة على أنها شجرة تمتد جذورها في أفريقيا، وأغصانها ترفرف عالياً في أوروبا.
إن طبيعة تكوين الشخصية المغربية التاريخية، هي التي مكنت اليوم الفاعلين السياسيين والمجتمعيين داخل المجال السياسي المغربي العام، من إنجاح الميثاق السياسي والتعاقدي خلافاً لكثير من دول المنطقة، انطلاقاً من مبادئ التنازل والتوافق والثقة التي عليها نجاح الميثاق السياسي، وقاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني، يجعل كل الأطراف تعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي، كما أن ذلك يستلزم ثقة متبادلة بين الأطراف ومخرجاً عقلانياً حتى تصبح المعادلة إيجابية، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتلاشى وتتلوث، وفي آخر هذا المطاف يؤدي الميثاق التعاقدي إلى استحكام هياكل الديمقراطية في حال المعادلة الإيجابية، وهذا الخيار السياسي الشجاع الذي تبناه الفاعلون السياسيون منذ مدة هو الذي أعطى للمغرب تلك الخاصية الاستثنائية، في منطقة تعج بالمشاكل والاضطرابات، وهو الذي يساهم في الرفع من مستوى النجاح الدبلوماسي وتأثير المغرب إقليمياً ودولياً، وقد أشرت في محاضرة لي مؤخراً إلى هذه الخصائص، التي من خلالها نفهم مصداقية المغرب الكبيرة، قارياً ودولياً، وتقدير شركاء المغرب العالميين، وثقة كبريات الشركات العالمية التي تتواجد فروعها في المغرب.