لا يمكن تصور حجم الثروات الهائلة التي تتمتع بها بلدان القارة الأفريقية، والتي لم تستغل حتى الآن لأسباب عديدة، كسوء الإدارة ونقص التمويل وتخلف البنى الأساسية بشقيها الصلب والناعم، فالسودان على سبيل المثال، والذي يعتبر سلة غذاء للعالم العربي وأفريقيا، يستغل 20% فقط من أراضية الزراعية الخصبة، أي أنه يستطيع مضاعفة إنتاجه الزراعي عدة مرات، إضافة إلى احتواء أراضي القارة السمراء على ثروات أخرى، كالنفط والذهب واليورانيوم والنحاس والكثير من المعادن.
في بداية شهر يوليو الماضي، أعلن قادة أفريقيا إقامة منطقة تجارة حرة بين دول القارة، مما يعني تحولاً مهماً في العلاقات الاقتصادية والتجارية بينها، سترتب عليه في حالة تطبيقه مكاسب اقتصادية لا تقدر بثمن، وستساهم في حل العديد من المعضلات التي تواجهها هذه البلدان، وذلك بحكم الإمكانيات والفرص التي ستتوفر بفضل انفتاح أسواق 55 دولة على بعضها البعض، والتي تضم 1.3 مليار نسمة، وسوق بمنطقة اقتصادية حجمها 3.4 تريليونات دولار.
تحقق هذا الإنجاز بعد أربع سنوات من المفاوضات الشاقة والمتواصلة، مما يبرر تذليل كافة العراقيل والمصاعب التي ستواجه تنفيذ بنود اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية، وهي كثيرة ومعقدة، وليس من السهل تجاوزها، فالدول الأفريقية تعاني من الانقسامات والصراعات السياسية والاجتماعية، وهو ما دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى التنويه في كلمته بالقمة، إلى أن «الطريق طويل وعلينا أن نكمله»، إذ ربما ينطلق الرئيس السيسي من تجربته العربية، حيث طبقت قبل عشر سنوات اتفاقية مماثلة بين البلدان العربية، إلا أنها بقيت غير مفعلة بسبب التفاوتات فيما بينها، سواء السياسية منها أو فيما يتعلق بالأنظمة والتشريعات التجارية.
من هنا، فإن الدول الأفريقية تواجه مصاعب مماثلة قد تبقي الاتفاقية رهن الأدراج، إذا لم تعمد إلى تذليل العقبات الموضوعية والقانونية التي تواجهها، فهناك أولاً النقص الكبير في تشريعات وأنظمة بعض الدول، ناهيك عن تفاوت هذه القوانين، بل وتضاربها في بعض الأحيان، مما يتطلب سرعة تعديلها لتتقارب فيما بينها، كما أن البنية التحتية للتجارة بين الدول الأفريقية بحاجة لاستثمارات ضخمة لتطويرها، حتى تستطيع تلبية احتياجات النمو التجاري البيني المتوقع بين هذه البلدان.
وإلى جانب الخلافات السياسية، التي يجب التخفيف من حدتها لخلق أجواء من الثقة التي يتطلبها هذا النوع من التعاون، فإن هناك أيضاً عوامل تجارية هيكلية تتعلق بارتباط القطاع التجاري لكل دولة أفريقية بشركائها من خارج القارة، كالاتحاد الأوروبي وثيق الصلة بدول المغرب العربي أو الصين التي ترتبط بها بعض دول شرق القارة، إذ يتطلب تنمية التبادل التجاري البيني إيجاد اقتصادات أكثر تنوعاً، وهي مسألة تحتاج إلى وقت واستثمارات كبيرة في مختلف القطاعات الاقتصادية، فالتبادل التجاري بين الاقتصادات المتشابهة عادة ما يكون محدوداً، وهو لا يتجاوز 10% في الحالة الأفريقية، حيث انخفض التبادل التجاري البيني بنسبة 44% في عام 2017، مقارنةً بعام 2016. ومع ذلك، فان تجربة منطقة التجارة الحرة الخليجية تبين أن هناك فوائد عديدة يمكن تحقيقها، فتطبيق اتفاقية التجارة الحرة الخليجية قبل خمسة وثلاثين عاماً تقريباً ساهم في مضاعفة التبادل التجاري بين دول المجلس لترتفع نسبته من 6% إلى 15% في غضون ثلاثة عقود من الزمن.
وبالتالي، فإنه رغم المحاذير التي أشرنا إليها، فإن بعض المكاسب ستتحقق دون شك، إذ سيرتفع التبادل التجاري البيني للدول الأفريقية، وستتوفر الكثير من فرص العمل، وستنخفض أسعار العديد من السلع المصنعة محلياً بعد إعفائها من الرسوم الجمركية، وتتهيأ ظروف أفضل لإقامة مشاريع مشتركة وانتقال لرؤوس الأموال والاستثمارات المتبادلة، وهي مكاسب لا يمكن التقليل من شأنها، إلا أن كل ذلك مرتبط بتذليل العقبات، وقبل ذلك بصدق النوايا والالتزامات وتعزيز الثقة المتبادلة حتى تجني الشعوب الأفريقية ثمرة هذه الاتفاقية.
*مستشار وخبير اقتصادي