أكمل جلالة الملك محمد السادس عقدين من حكم البلاد وهي فترة حقق فيها المغرب إصلاحات سياسية ودستورية لا يعلى عليها، وقطع مسافات لا تحصى في مجال الانفتاح السياسي وتثبيت الأمن المجتمعي وتقوية المؤسسات، واستطاعت المؤسسة الملكية في ظرف العشرين سنة الأخيرة السير بعيدا بالإرث السياسي المتميز في تاريخ المغرب المعاصر وتطويره والتأقلم مع المستجدات الداخلية والجهوية والتوفر على الحس الاستباقي في تسيير الشأن العام، وإذا أردنا الحديث عن أهم مميزات هذه المرحلة، فيمكن إيجازها فيما يلي:
-الحكمة: فإذا صح لنا إذن نلخص سر نجاح التجربة المغربية في كلمة واحدة لقلنا إن ذلك يكمن في الحكمة، والحكمة هي التي تسقي جذور الإصلاح، وهي التي تبني المجال السياسي العام على أصول لا تحور ولا تبور، وهي التي تجعل من الفكر عقلاً ناهضاً، ومن المجتمع مجتمعاً سوياً، ومن كل الأجهزة مؤسسات تبني وتتكيف مع الواقع والمستقبل، ومن هنا ترسيم المفهوم الجديد للسلطة وطريقة التعامل مع الماضي بمسلسل المصالحة والذين غيرا جذريا طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة.
- ثم إنه مع الأحداث التي عرفتها العديد من دول المنطقة، كانت الأرضية السياسية والمؤسساتية جاهزة للانتقال بالتجربة الدستورية المغربية إلى ما أسميه مع الفقيه القانوني الفرنسي أندري كابانيس بدستورانية الجيل الرابع، أدخل المغرب إلى مدرسة الدول الديمقراطية المعروفة «بالانتقال الميثاقي»، وهنا يتجلى الحس الاستباقي للمؤسسة الملكية في دولة الأحزاب، وهو أن التجاوب كان انطلاقاً من انتظارات الشباب وليس انطلاقاً من مآخذ الأحزاب المحدودة ومطالبها، فوجدت الأحزاب السياسية نفسها تدخل في عملية فريدة لم تكن فاعلاً رئيسياً فيها.
- ساهم الاستقرار والانفتاح السياسيان في إعطاء المغرب مصداقية كبيرة، قارياً ودولياً، وتقدير شركاء المغرب العالميين، وثقة كبار المستثمرين، كشركات «بوينغ» و«رونو» و«بوجو» و«سافران» و«إيربيس»، التي تتواجد شركاتها في المغرب. كما أن المغرب هو الذي نشر الإسلام الوسطي في منطقة الساحل جنوب الصحراء، والعديد من دول أفريقيا اليوم تطرق باب التسامح والتكوين الدينيين المثاليين في المغرب، لتكوين أئمتها فوق التراب المغربي. فالمغرب انخرط بوتيرة سريعة في سياسة إعادة هيكلة الحقل الديني، وأعاد الاعتبار للتفكير العمومي كقاطرة لتدبير قضايا التحديث بالبلاد، وذلك بمراجعة العديد من القوانين والتشريعات المنظمة لهذا المجال، كتأسيس معهد الأئمة والمرشدات... فتحصين الشأن الديني وتدبيره يعتبر من الدعامات المؤسسة للهوية الوطنية، وهو ما جعل المؤسسات العليا للبلاد، منذ أن اعتلى العاهل المغربي الملك سنة 1999، ترسم استراتيجية دينية لم يعهدها تاريخ المغرب المعاصر، فلم يعد هذا المجال يخضع لاستراتيجيات قطاعية أو ظرفية، محدودة الزمان والمكان، بل أصبح ينظم وفق منظور شامل أعطى نتائجه على أرض الواقع.
- الطابع السلمي والوحدوي: فمصالح شعوب المنطقة التي يدعو إليها المغرب هي في حسن النية والوحدة والتكامل والاندماج والواقعية والعمل الجاد وروح المسؤولية والوضوح والطموح. ونحن نتذكر عندما دعا جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء إلى الحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية، التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين «فقد قاومنا الاستعمار معا، لسنوات طويلة حتى الحصول على الاستقلال، ونعرف بعضنا جيدا. وكثيرة هي الأسر المغربية والجزائرية التي تربطها أواصر الدم والقرابة»، كما جاء في خطاب جلالته.
- طبيعة الشخصية المغربية التاريخية: وهي التي مكنت اليوم الفاعلين السياسيين والمجتمعيين داخل المجال السياسي العام، من إنجاح الميثاق السياسي والتعاقدي خلافاً لكل دول المنطقة، انطلاقاً من مبادئ التنازل والتوافق والثقة التي عليها نجاح الميثاق السياسي بين كل النخب السياسية. وقاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي يجعل كل الأطراف التي تشتغل داخل المجال السياسي العام تعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي، كما نظرت لذلك في العديد من كتبي، وللحديث بقية.