من كان يتصور مثل هذا المشهد اللامعقول: الديموقراطيون الأوروبيون حلفاءٌ مواربون للجمهورية الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأميركية؟! ففي الأزمة الناشئة بين واشنطن وإيران يسعى الاتحاد الأوروبي إلى حماية إيران من العقوبات الأميركية. كأن أوروبا ذات القوة الاقتصادية الوازنة تريد أن تظهر بما ليس فيها: قوة سياسية. قد لا تكون المرة الأولى التي يعلن فيها الاتحاد الأوروبي خلافاته مع الدبلوماسية الترامبية: حول الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية، مكافحة الاحترار المناخي وكذلك البرنامج النووي الإيراني. فالاتحاد على تناقضٍ شبه تام مع الولايات المتحدة الأميركية (باستثناء بريطانيا) يسعى إلى إضعاف السياسة الأميركية، ويُواجه الاقتصاد الأميركي. وها هو ينتقل إلى الممارسة ويخطط لتحدي أميركا، أي آلية التفعيل الاقتصادية يجسدها الأوروبيون في خطواتٍ عملية، تتيح الاستمرار في علاقاتٍ تجارية ودبلوماسية مع إيران تجاوزٌ للعقوبات الأميركية، كأنه بات ذلك يشكل بداية مقارعة الامتيازات الأميركية المتفردة. وهذا يعني مواجهة الحصار الذي تفرضه أميركا على إيران منذ 2018.
ترامب دَانَ عام 2018 اتفاق مراقبة النووي الإيراني الموقع عام 2015 بمشاركة الصين وفرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا. فالرئيس الأميركي يسعى بقوة لتصعيد العقوبات لإجبار إيران على التفاوض معه بشأن الاتفاق النووي، الذي أبرمه أوباما ضمن نقاط اثنتي عشرة، أي مخزون الصواريخ الباليستية لطهران وسياستها العدوانية في المنطقة العربية وأبعد منها. (وهذا ما لم يفعله أوباما).
لكن ذلك بدا موقفاً نظرياً أكثر مما هو عملي. ونقصد المواقف الأوروبية، فالشركات لم تُخاطر بكسر الحصار الأميركي لكي تتجنب منعها من الدخول إلى السوق الأميركية. هذا الموقف الأوروبي قد يخفي مبادرة أخرى لتشكيل جبهة اقتصادية ضد أميركا. لكن بدا أنه يتجاوز ذلك أيضاً إلى ما هو سياسي، ويعني ذلك تأكيداً على استقلالية أوروبا وإراداتها في لعب دورٍ ربما أكبر منها.
وها هي أزمة ناقلات البترول في الخليج العربي من عُمان إلى مضيق هرمز وأبعد منهما يكادُ يهزّ يقين أوروبا. الاعتداءات الإيرانية على سفنٍ للإمارات والنرويج واليابان. وصولاً إلى ناقلة نفط ترفع العلم البريطاني، وقرصنتها ورفع العلم الإيراني عليها. رداً على احتجاز القوات البريطانية ناقلة نفط إيرانية مُحمّلة بمليوني برميل نفط في جبل طارق متوجهة إلى سوريا. (والمعروف أن سوريا تخضع لعقوبات الاتحاد الأوروبي). وهنا تُكمل أوروبا سياستها الاستقلالية: فرداً على مطالب ترامب لتكوين تحالف دولي لحماية الممرات البحرية من إيران، ها هي أوروبا تُعلن أنها ستُشكّل تحالفاً من عدة دول أوروبية لحماية الناقلات، من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا.
إنها خطوة موجهة ضد أميركا ليس فقط بهذا التحالف، بل أيضاً للتحكم بالمفاوضات مع إيران والاستمرار بمطالبة أميركا بتخفيض العقوبات عليها والمحافظة على الاتفاق النووي. لكن نظن أن إيران لا تهمها أوروبا بقدر ما تهمها أميركا، وقد رفضت هذا التحالف الأوروبي واعتبرته تصعيداً وهددت «بوريس جونسون» بفوزه برئاسة الحكومة البريطانية في باب التهنئة. وفي الوقت الذي تتهاون فيه أوروبا بجرائم «الحوثيين» في اليمن وحتى في الخليج، ها هي ترفع النبرة مع الولايات المتحدة. فالمسألة بالنسبة إليها أولاً وأخيراً وبعيداً عن التصريحات اليومية التي تدين بها إيران فالموضوع يتعلق أساساً بالاقتصاد، وبالمشاريع الاستثمارية التي وقعتها بعض الدول الأوروبية مع إيران. لكن تركيبة هذا التحالف الأوروبي كأنها مشتتة، الخلاف بارز بين فرنسا وبريطانيا. وقد صرح وزير خارجيتها السابق «جيريمي هانت» بدعوته لقيام «قوة حماية بحرية عسكرية». وعندما دخل ترامب على الخط معتبراً المبادرة الأوروبية مكملةً للجهود الأميركية، حدث تنسيق بين القوات الأميركية والبريطانية ربما بمعزل عن فرنسا. وصرح وزير الخارجية الفرنسية أنها ليست قوة حماية بقدر ما هي مهمة متابعة ووقاية للأمن البحري: أي أنها مهمة دبلوماسية لا عسكرية، أي ليست تصعيداً بل خفضٌ له، كأن هذا الموقف «اعتذارٌ» من إيران لا عسكرة بل مفاوضات، بل كأنها محاولة ضد عسكرة ترامب للحماية.
*كاتب لبناني