لم يكتف حاكم «مصرف لبنان» رياض سلامة الذي يحتفل في أغسطس المقبل بمرور 26 سنة على توليه هذا المنصب، بتكريمه عالمياً وعربياً مرات عدة كأفضل حاكم للبنك المركزي، بل تمكن من تحسين الوضع المالي للمصرف التي ارتفعت ميزانيته نسبة للناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات قياسية، وبذلك تبوأ في العام الماضي المرتبة الأولى عالمياً بين كل البنوك المركزية، وفق تقرير صادر عن شركة Bank of America Merrill Lynch، ولكن كل هذا التكريم العربي والدولي، لم يشفع به ويبعد عنه حملة سياسية شعواء يتعرض لها حالياً من قبل بعض الكتل النيابية والأحزاب، الأمر الذي أثار غضب رئيس الحكومة سعد الحريري الذي يدعمه بقوة، وقد احتج بشدة على هذه الحملة التي تسيء إلى سمعة لبنان المالية والنقدية والمصرفية، وتؤثر في علاقاته الدولية، فضلاً عن أنها تضعف ثقة المستثمرين بهذا البلد، وتنعكس سلباً على تدفق الاستثمارات. في حين أن القيادات السياسية هي التي يجب أن تتحمل المسؤولية الكبرى عن الأزمة المالية الحقيقية التي يعاني منها لبنان، بشهادات وتقارير معظم المؤسسات الدولية للتصنيف الائتماني، وذلك بسبب «إفلات» الإنفاق الحكومي، واستمرار العجز في موازنات الدولة، وبالتالي تراكم الدين العام الذي وصل إلى مؤشر خطير يعادل نحو 150 في المئة من الناتج المحلي.
والحملة السياسية التي اشترك فيها عدد من خبراء المال والاقتصاد المعارضين لرياض سلامة، تنتقد ممارساته والإجراءات التي اتخذها، وهي لم تقتصر على حماية النقد الوطني، بل تجاوزتها بالانحياز الكامل لمصلحة المصارف، من خلال هندسته المالية التي وفرت لها أرباحاً إضافية، فضلاً عن إفادة كبار المودعين. والحاكم بدوره لم ينف دعمه للقطاع المصرفي كونه «أنجح قطاع في المنطقة العربية، وهو ركيزة استراتيجية لاقتصاد لبنان».
واللافت في هذا المجال أن انتقادات الحملة تلاقت مع انتقادات صندوق النقد الدولي ونصائحه، والتي استمع إليها المسؤولون ودرسوا أبعادها باهتمام بالغ، ثم رفضوها لأنها(في رأيهم) تتعارض مع مصلحة لبنان المالية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل أهمها تعويم سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية، وتركه لعوامل السوق والمضاربين بالعرض والطلب، بدلاً من التمسك بقرار تثبيت السعر بهدف تأمين الاستقرار النقدي طيلة عقدين ونصف العقد، على مستوى 1500 ليرة للدولار، مع هامش ضئيل جداً (صعوداً وهبوطاً). وقد تجنب لبنان بذلك كارثة مالية وتدهوراً كبيراً في قيمة النقد، في حال اعتماد نصائح الصندوق.
ولكن كان على لبنان مع اعتماد سياسة «التثبيت» أن ينفذ خطة مالية اقتصادية تهدف إلى الحد من تراكم الدين العام الذي كان في العام 1993، لا يتجاوز المليار ونصف المليار دولار، وأصبح اليوم يزيد على 87 مليار دولار، وبما يحمله من مخاطر اقتصادية واجتماعية، أشار إليها الصندوق في تقاريره المتتالية. ومع استمرار العجز المالي وعجز الميزان التجاري، وتفاقم عجز ميزان المدفوعات الذي سجل في الخمسة أشهر الأولى من العام الحالي خمسة مليارات دولار، وهو رقم قياسي وخطير، من الطبيعي أن تساهم كل هذه التطورات السلبية، بنزف احتياطي المركزي الذي تراجع منذ العام الماضي من 43 مليار دولار إلى 33 مليار حالياً. وترجمة لحالة عدم تفاؤله بالمستقبل القريب، يتوقع خبراء الصندوق أن يستمر النزف ليتراجع الاحتياطي إلى 15 مليار دولار عام 2024. ووفق سيناريو «خط الأساس» الذي وضعته بعثة المادة الرابعة عن لبنان، ستتراجع تغطية موجودات العملات الأجنبية لفاتورة الاستيراد من 12,7 شهر في العام الماضي إلى 6,1 شهر في 2023، ولن تغطي بعد خمس سنوات سوى 11,5 في المئة من الديون الخارجية قصيرة الأجل و9,6 في المئة من الودائع بالعملات الأجنبية لدى القطاع المصرفي.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية