كان ولا يزال تقدم ونهضة العالم الإسلامي محدداً من خلال عدة عوامل، كان لها الأثر الأبرز في تحديد أو تحدير مسارها الفكري، الذي يبنى عليه كل ما بعد ذلك، من خلال عدة عوامل أبرزها «المدارس الخمسة»، فكانت أولها المدرسة التقليدية، التي تقدس التراث من خلال وضعه في منزلة النص القرآني والصحيح من السنة النبوية الشريفة، وهي النصوص الحاكمة للتشريع الإسلامي «حصراً»، مما أدى لتداخل الاجتهادات البشرية، وشراح النصوص مع الآليات القرآنية والسنة، والتي وصلت - بلا مبالغة - لإسباغ هالة من القداسة والتعظيم، أو «التطبيل» لشيوخ وعلماء لهم كل الاحترام لا التقديس، إذا أن اجتهاداتهم تبقى صادرة عن إنسان يخطئ ويصيب وصلاحيته حبيسة الزمان والمكان.
أما المدرسة الثانية، فهي لا تبتعد كثيراً عن الأولى، بل تعتبر رد فعل صادر عنها، إذ تحيط بقدسيتها للأسباب التي تبقيها قابعة على التقوقع اللامبرر له، مما دفعها حين فكرت في التجديد، للقفز «العجول» على صهوة «التغريب» دون التأني والنظر فيما يحيط بذلك، لنرى نتاج «الهوج الفكري» المنطلق من الاعتقاد بأن العلوم المدنية البحتة المنزوعة بشكل خالص من الدين، هي سبب ما نراه من مشاريع نهضوية مشوهة، لمحاولة استنساخها العبثي!
وما يعاظم من خطر ترك العناية بالمنظومة الفكرية، دون خطط استراتيجية أكثر من رصينة، ما يحيد له وبه أصحاب المدرسة الثالثة التي تتعامل مع التراث الفقهي، باعتباره تراثاً إنسانياً يشمل في بشرية وضعه النص المقدس! وتعرف كذلك بالتفسير التاريخاني للنص المقدس، وهذه المدرسة تقف على رأس العوامل الهدامة الضاربة للأصول والمرتكزات الإسلامية، فضلاً عما تفرزه من تفكير شديد الانحدار متخذةً من القرآن والصحيح من السنة النبوية الشريفة، نتاج مرحلة زمانية ومكانية بعينها، وبذلك فهي تقول بمحدودية رسالة الإسلام، وتحصر الرسالة المحمدية السامية التي جاءت للعالمين كافةً رحمةً وهداية. أما رابعها التي تنظر للتراث على أنه حدث تاريخي مقدس، يجب استنساخه كنموذج «رسالي» في مشروع بناء النهضة الجديدة، فقد نفثت سمها في جذور مؤلفات التشدد الفكري، وبخاصة ما جاء في مؤلفات سيد قطب، ابن أفكار المدرسة الأولى آنفة الذكر.
وفي مقابل كل ذلك، وفي الوقت الذي تُقْدم عدة دول به على إرادة غير منقطعة في السمو بالقيم الإنسانية فوق كل اعتبار، كان لا بد من تتويج المرحلة، بالخروج عن محيط الإشكاليات، من خلال تكثيف وإطلاق أفكار المدرسة التوفيقية، «المدرسة الخامسة» التي تضع التراث في إطاره السليم، باعتباره إنتاجاً فكرياً وعلمياً وبشرياً خارجاً من حدود التقديس والمغالاة في النظر للأمور، مستنبطةً منه الأحكام الفقهية من منطلق الفهم الخاص للدين وإدراك فقه الواقع، بانتهاج آليات الاستنباط أو الاستقراء أو الاستحسان، وهي فعلياً ما يعتبر حاجة ماسة وضرورة إلزامية، باعتبارها «ترياق» داء الضلال، والتقوقع على الذات، والكراهية، واختطاف الأديان والأوطان!
ومن هنا كان لا بد من تعزيز وتكثيف الجهود الدافعة بمشروع تجديد الخطاب الديني، المرتكز على حديه النظري، والعملي. ليتخذ السبيل التنظيري دور إطلاق الإصدارات الفقهية، التي تعتبر المنبر القوي للرد على الشبهات وتصحيح المغلوطات، وترسيخ قيم التسامح والتعايش والتأكيد على ضرورة صون الأوطان، عبر الندوات والمؤتمرات. ومن الوسيلة «الإجرائية» ينبغي التركيز على إنعاش نبض التأهيل السليم والإعداد الرصين للأئمة والدعاة والفقهاء، تأهيلاً شرعياً لغوياً تكنولوجياً، يتوافق مع متطلبات العصر، ويصون جوهر الهوية الإسلامية، مما يؤدي لتوحيد الإرادة والنهوض الحقيقي في الأوطان من خلال رجال دين يمثلون بوصلة نقية جديدة، ومجتمعات واعية متوازنة مدركة لدورها الريادي في بناء أوطانها، متنعمة في تحقيقها مواطنة حقيقة كاملة، دون حيدها عما جاءت به رسالة الإسلام السمحة، مفندةً لكافة المزاعم المغرضة المبنية على المصالح المخفية، فالإسلام لم يكن يوماً إلا دين دولة ووطن، محققاً هدف وجود الإنسان على الأرض، ناثراً همة البناء والعطاء والازدهار والإعمار، أينما حل أو ارتحل.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة