اكتملت، في الآونة الأخيرة، عناصر الأزمة التي ترتبت على بدء تسلم تركيا الدفعات الأولى من صواريخ S-400 التي اشترتها من روسيا، عوضاً عن صواريخ باتريوت التي رفضت الولايات المتحدة بيعها لتركيا، وليس الهدف من هذه المقالة تحليل هذه الأزمة من وجهتي نظر السياستين الخارجيتين الأميركية والتركية، وإنما محاولة استنتاج دلالة الأزمة بالنسبة لحلف الأطلنطي ومستقبله، ولأنني لست خبيراً عسكرياً، فليس بمقدوري أن أُبدى رأياً قاطعاً في مدى تهديد الصفقة التركية-الروسية لأمن الحلف، لذلك سأُركز على البعد السياسي للمشكلة؛ أي إلى أي مدى تُعتبر الصفقة تقويضاً للأساس السياسي والاستراتيجي للحلف، ذلك أن مفهوم الحلف يعني أن هناك عدداً من الدول يتبنى رؤية مشتركة للمخاطر التي تهددها وخطة عمل لمواجهتها يكون البعد العسكري فيها أساسياً، وقد تنسحب هذه الرؤية على النظام الدولي بأسره، كما كان الحال في حقبة الحرب الباردة إبان الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، حيث تُرجم هذا الصراع استراتيجياً وعسكرياً في تبلور مواجهة بين حلف الأطلنطي بقيادة الولايات المتحدة وحلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي، ولذلك فإنه بمجرد اهتزاز هذه الرؤية المشتركة أو اختفائها، يتأثر بنيان الحلف أو ينهار، كما حدث بالنسبة لحلف الأطلنطي حين تأثر في ستينيات القرن الماضي بالسياسات الاستقلالية للرئيس الفرنسي ديجول، وحلف وارسو عندما انهار تماماً بانهيار المعسكر الاشتراكي، بسبب سياسات جورباتشوف.
ولذلك فإن الأزمة الراهنة بين تركيا والولايات المتحدة، بسبب صفقة الصواريخ الروسية S-400، لا شك أنها تؤثر في بنيان الحلف، ولنتذكر أن حلف الأطلنطي خرج من الحرب الباردة منتصراً بعد تفكك حلف وارسو، بل إنه بدأ يتمدد في بعض البلدان التي كانت عضوة في هذا الحلف، وبدا في ظل سياسات الرئيس الروسي السابق يلتسين أن روسيا ذاتها قد تكون في الطريق لأن تصبح جزءاً من منظومة حلف الأطلنطي، اتساقاً مع فكرة «نهاية التاريخ»، غير أن خليفته بوتين أعاد لروسيا سياساتها المستقلة على النحو الذي جدد أجواءً شبيهة بالحرب الباردة، الأمر الذي استعادت به روسيا موقعها السابق كخصم لحلف الأطلنطي، وهكذا تتبلور الأزمة الراهنة على النحو التالي، أن تركيا العضو في حلف الأطلنطي الذي يعتبر روسيا خصماً رئيسياً له، تشتري أسلحة دفاعية من هذا الخصم، وهو وضع لا يستقيم مع منطق الحلف ذاته، فأن تكون جزءاً من حلف يعني بداهة أنك توافق على سياساته، ومنها بالتأكيد تلك المعادية لروسيا، فكيف تعتمد في الوقت نفسه في قدراتك الدفاعية عليها؟ وبطبيعة الحال، فإن من حق كل دولة أن تعزز قدراتها العسكرية على النحو الذي تراه، لكن اتباعها سياسات تتناقض والتزاماتها التحالفية لا بد وأن يسبب لها مشكلات مع حلفائها، ويؤدي في الوقت نفسه إلى اهتزاز في بنية الحلف ذاته، فإلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الأزمة على مستقبله؟
لا شك أن سياسات دولة واحدة في حلف يتكون من 28 دولة لا يمكن أن تكون لها تأثيرات جذرية عليه، حتى ولو كانت صاحبة ثاني أكبر جيش فيه، غير أن المشكلة أن الأزمة الراهنة تحدث في وقت يعاني فيه الحلف مشكلات ترتب أهمها على سياسات الرئيس الأميركي الحالي الذي يركز كثيراً على البعد المالي في الالتزامات الأميركية تجاه العالم الخارجي، وأثار في هذا السياق غير مرة قضية عدم تحمل الحلفاء الأوروبيين بالتزاماتهم المالية الواجبة تجاه الحلف، وهي مسألة موضع جدل، لكنها أفضت في النهاية إلى بروز أفكار إنشاء قوة دفاعية أوروبية مجدداً، نتيجة ما فُهم، صراحة أو ضمناً، من أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها في حلٍ من استمرار التزاماتها الدفاعية تجاه أوروبا إذا استمر عدم وفائها بالنصيب الكافي في ميزانية الحلف من وجهة النظر الأميركية، ومن المعروف أن فكرة القوة العسكرية الأوروبية المشتركة قديمة قدم المشروع الأوروبي ذاته، لكنها تعثرت طويلاً لأسباب عديدة كان أهمها وجود حلف الأطلنطي، لكن الوضع يختلف الآن في ضوء التوتر بين ترامب وأوروبا، ويعني هذا أن الأزمة التركية-الأميركية في حد ذاتها، رغم دلالاتها السلبية بالنسبة لحلف الأطلنطي، ليست كافية وحدها لزعزعته، وإنما تكتسب أهميتها من أن الحلف يعانى بالفعل من توترات داخلية بين أهم أطرافه، وهو ما يطرح أسئلة جادة حول مستقبله.
*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة