حكومة الكونغو قررت مؤخراً إغلاق القنصلية البلجيكية في أكثر من مدينة، وطلبت إيقاف رحلات الطيران البلجيكي إلى مطاراتها. هذا ما نقلته صحيفة (الانديبندنت) البريطانية، وأضافت نقلاً عن مسؤول في إدارة الطيران المدني البلجيكية، أن سبب ذلك هو (غياب المعاملة بالمثل). ومعلوم أن جمهورية الكونغو الديمقراطية كانت قد استعمرتها بلجيكا عام 1902 حتى 1962 وهي التي تكبر بلجيكا بـ76 مرة، لقد أسست عليها إمبراطوريتها بعد أن ضمت لها دول أخرى كرواندا.
وفي إطار تتبع الشأن الكونغولي وما آلت إليه الأوضاع في ذلك البلد الأفريقي الغني، بعد الاستقلال وحتى الوقت الراهن، فإن المعلومات صادمة وتبعث على القشعريرة قبل أية حالة تراجيدية أخرى، مؤكدة، ستعتري المرء وهو يتنقل بين القصص المتداولة بين السكان، سواء في الأرياف والغابات الخضراء المطيرة، أو ضواحي المدن الكبيرة. من بين الذين طرحت الصحافة عليهم أسئلتها، مواطن كونغولي سئُل كيف هي حال بلادكم التي تسودها اليوم الفوضى من كل صوب؟ فرد قائلاً: «بلادنا ما زالت مُحتلة.. نحن لم نتحرّر بعد». جوابه كان غير متوقع كونه شخصاً من عامة الناس، لكن ولأنه كذلك، فقد أعطى الإجابة صدقيّة أكبر مما لو جاءت من مثقف أو سياسي من ذوي الياقات المُنشّاة وربطات العنق الأنيقة. لكن الكونغو مستعمرة ممَن؟ سؤال تطرحه البديهة، وما الذي يجعل استعمار هذا البلد يتجدّد؟ في حين مر على إعلان استقلاله الوطني زهاء الستين عاماً أو يزيد.
والحقيقة إن هبات السماء في الكونغو كثيرة لا تعدّ، بدءاً من الغابات والذهب والألماس وليس انتهاءً بالموارد التي منها المعادن التي تدخل في كل شيء، من شاشات الهواتف المحمولة، إلى أسلاك الطائرات العسكرية، إلى المعدات الطبية في المستشفيات. وفي قول لا يخلو من تعميم لفظي: إن العالم كله حاول السيطرة على الكونغو كلٌ حسب إمكانياته وطموحاته، فأول المحاولين وفاز بحصة الأسد أميركا ثم تلتها فرنسا وبريطانيا وبلجيكا.. (كلهم استثمروا في موت السكان الأصليين) هكذا يقول مواطن من الكونغو، وكلهم حالوا دون تأسيس دولة مركزية قائمة على المؤسسات في هذا البلد الضخم، ففي الأربعين عاماً الأخيرة قتل نحو (تسعة ملايين إنسان وجرى اغتصاب نصف مليون امرأة) والعالم أخرس من حولنا، كما لم تحرك هيئة الأمم المتحدة ساكناً، ولم يزر دعاة السلام تلك الأرض المضمخة بالأنين، بينما منظمات حقوق الإنسان تحولت إلى جزءٍ من الأسنان الضاربة عميقاً في بياض العظم. إن من يملك الإعلام العالمي- يضيف المواطن البسيط- هو من يقتل البشر، لهذا فإنك لن ترانا ولن تسمعنا، كما أن بعضنا هو من يساعد على (تحديث الكابوس المعتم كلما أوشك على الانتهاء في بلادنا..الجنة المنهوبة).
*إعلامي وكاتب صحفي