لا يزال الملف النزاعي الرئيس في المنطقة، هو الصراع الأميركي- الإيراني. لكنْ هناك نزاعاتٌ أُخرى لا يمكن ربطها بالنزاع الرئيسي إلاّ بصعوبة. والثابت، حتى الآن، أنّ الحرب الكبرى لن تقع. ويعبّر الأميركيون كل يومٍ تقريباً عن إرادةٍ في الحوار. ويجيب الإيرانيون أنهم وإن كانوا يريدون الحوار، لكنهم لن يُقْبلوا على ذلك ما دامت العقوبات تتصاعد وآخِر وقائعها احتجاز حاملة النفط الإيرانية في جبل طارق، وفرض عقوبات على نائبين من «حزب الله» في البرلمان اللبناني، ومسؤول اتصالٍ أمني. وفي حين يهدد الأميركيون ويلوم البريطانيون والألمان إيران على البدء بالتخلّي عن التزاماتها بمقتضى الاتفاق النووي عام 2015، يُصرُّ الفرنسيون على استمرار التفاوُض مع إيران، ويرسلون مبعوثهم إلى طهران للمرة الرابعة أو الخامسة، والمفهوم أنهم بذلك لا يزعجون الأميركيين، بل يتشاورون معهم بشأن إمكانيات هذا المسار. وقد كرر الأوروبيون وعودهم لإيران بخفض تأثيرات العقوبات الأميركية عليها، لكنّ الإيرانيين ليسوا مسرورين بالنتائج حتى الآن، ويعتبرون أنّ الأوروبيين ما فعلوا ما فيه الكفاية. ويعتقدون أنهم يشددون الضغوط عليهم بالتخلي التدريجي عن الالتزامات.
وإلى جانب ذلك كلّه، ولأنّ الأميركيين قرروا عدم مصادمة إيران مباشرةً، فإنهم يتصلون بالدول التي تمتلك سفناً وأساطيل في المحيط الهندي، من أجل مشاركتهم في حماية أمن الملاحة بمضيق هرمز، وباب المندب. والمعروف أنّ أحداً من الكبار لا يريد مشاركة ترامب في أي شيء بسبب التنمر وسوء العلاقة، ربما باستثناء بريطانيا.
إنّ وجهة نظر ترامب، وقد ترشح للانتخابات من جديد، أنه يريد أن يقول للناخبين إنه خفَّف التزامات أميركا بالخارج إلى أقصى حد. ولهذا استقبل أمير قطر، ليخبر الأميركيين علناً أنّ الإنفاق على توسيع قاعدة «العديد» وقد كلّف ذلك ثمانية مليارات دولار، دفعته كله قطر. وهذه الأخيرة تزعم أنها صديقة إيران، لكنها لا ترى تناقُضاً بين هذا وذاك!
ومن الخليج إلى سوريا، حيث تريد إدارة ترامب مُضاءلة التزاماتها، وهو الأمر الذي تسبب في استقالة وزير أو زيرين من حكومة ترامب من قبل. الجديد في المسألة أنّ وزير دفاع ترامب طلب من ألمانيا زيادة قواتها في سوريا، لكي يستطيع الأميركيون مضاءلة مسؤولياتهم على الأرض فقط، وليس في السياسة والتفاوُض. وقد رفض الألمان، الذين يساعدون الأميركيين أكثر في العراق. ووسط تصاعد الخلاف مع تركيا، ما بقي للأميركيين غير التفاوض مع الروس والتسليم لهم بالتدريج. وبالطبع فإنّ الضحية في هذه الحالة هم الأكراد، الذين قاتلوا «داعشاً» في السنوات الماضية بإشراف الأميركيين ومساعدتهم. ولا يعلم أحدٌ بالضبط ما هي الضمانات التي يقدمها الأميركيون للأكراد، الذين ما قطعوا علاقاتهم مع الروس ولا مع النظام السوري. فقد لا تكون حدود التزامات الأميركيين في سوريا متعلقةً إلاّ بأمن إسرائيل، ولذلك اجتمع مديرو أمن الأطراف الثلاثة: الأميركي والروسي والإسرائيلي، بإسرائيل قبل أسبوعين، للحصول على ضمانات من الروس بشأن تخفيف الوجود الإيراني في سوريا على مقربةٍ من حدود الكيان الصهيوني. وهنا تختلف التقديرات، فهناك من يقول إنّ الغارات الإسرائيلية العنيفة والشاملة بالداخل السوري بعد الاجتماع، تدلُّ على أنه فشل. لكن ينبغي التنبه إلى أنّ السلاح الصاروخي الروسي إس-300 لم يتحرك أثناء الغارات التي استمرت لساعات. كما أنّ المفاوضات بشأن إكمال تشكيل اللجنة الدستورية، وهي من مقدمات الحل السياسي، يقال إنها تتقدم بعد زيارة المبعوث الدولي بشأن سوريا لموسكو ولقائه بلافروف. وتبقى عدة مشكلات في سوريا تدنو من الاستعصاء، مثل إدلب والإرهاب والثلاثة ملايين ساكن ولاجئ، وقضية الأكراد، ومن ينفق على إعادة الإعمار، وكيف يعود اللاجئون بالخارج والداخل إلى أرضهم ومساكنهم. الرئيس بوتين وفي تصريحٍ غريبٍ له وهو شديد الانضباط في العادة، خاطب الأوروبيين محذِّراً لهم من الاستمرار في استقبال النازحين لأنهم يأتون لاغتصاب النساء، وارتكاب الجرائم. أما في تصريحٍ آخر، فقد حذّر من أنّ الدواعش يهربون من سوريا إلى ليبيا!
المكان الوحيد الذي لا يقول الأميركيون إنهم يريدون الانسحاب منه هو العراق. وثبات موقفهم هناك، حتى الآن، علتُهُ المنافسة مع إيران التي تسيطر على ميليشياتٍ قويةٍ تشارك في السلطة هناك.
وهكذا لا يدري أحدٌ، وسط هذا التزحزُح الذي لا ينتهي، متى يبدأ التفاوض أخيراً بين الولايات المتحدة وإيران، وعلى ماذا؟! ويسخر أنصار إيران في لبنان والعراق من أنّ الأميركيين الذين جاءوا لمحاصرة إيران، صاروا هم المحاصَرين! وقد لا يكون هذا الانطباع صحيحاً، لكنّ الصحيح أنّ حالة المجابهة القائمة لا يستطيع الطرفان احتمالها طويلاً بسبب اقتراب انتخابات الرئاسة من جهة، والتصدع الإيراني من جهة ثانية، في الوقت الذي يزداد فيه دفع بلدانٍ مثل اليمن والعراق ولبنان وسوريا إلى بؤرة النزاع. لقد استخدمت إيران هذه البلدان بأشكالٍ مختلفة للدفاع عن نفسها، وتردّ إدارة ترامب بالضغط على تلك البلدان، التي لا تملك من أمرها الشيء الكثير: فأين هي هوامش الانفراج؟!
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية- بيروت