التفكير في ما لم يحدث من التاريخ البشري أمر ضروري للمؤرخين المبدعين، الذي يطرحون افتراضاً دائماً تجسده كلمة «لو»، التي تعني امتناعا لامتناع، في محاولة لفهم ما لم يجر، رغم أن الناس ربما تمنوه، وسعوا إليه، وبذلوا في سبيله جهداً مضنياً، لكن شيئاً ما جعل مسعاهم يخيب، لينجذب التاريخ في مسار آخر، هو ما فرض نفسه، وتم، ولو عنوة.
لكن التاريخ السياسي الذي جرى، لم يصلنا كاملًا، بل كُتب وفق تصور المتغلب أو المنتصر. وحتى المحايدون، الذين ينأون بأنفسهم عن كل ما يتعلق بالنصر والهزيمة، لم تتوفر لهم كل الوثائق، أو استسهلوا ولم يسعوا إليها. كما أن الوثائق إنْ توافرت فإنها، ومهما بلغت الدقة، ليست بقادرة على تغطية كل شيء قد تم بالفعل في واقع اجتماعي معقد، تشارك في صناعته أطراف عدة، متوازية أو متوازنة في القوة، لكنها ليست قادرة على تسجيل دورها، مثلما يفعل الأفراد المنتمين للنخبة السياسية، أو الممكنين في الجهاز الإداري للدولة، أو المؤرخين المعتمدين الذين تتبنى رؤيتهم الآلة الدعائية للدولة، وتقدم ما انتهوا إليه طيلة الوقت على أنه الحقيقة التي تتطابق مع الواقع الذي جرى.
إن رؤية هؤلاء التي تظل دوماً واحدة من الفراغات المعيبة في التاريخ الرسمي، لا تحظى بأي تسجيل أو تدوين، وإنْ جرى هذا على مضض، فإنها دوما تكون خاضعة للتشكيك والتفنيد أو حتى الإزاحة، رغم أنها قد تحمل في طياتها التاريخ الحقيقي، بعيداً عما سجله المتصارعون على السلطة، ومن يدور في ركابهم من المنتفعين والمغرضين.
هذه الفراغات يمكن للساعين إلى ملئها أن يسلكوا عدة سبل، هي:
1 ـ الموروث الشعبي المعاصر للأحداث، فأياً كان نوعه، قصصاً أم ملاحم أم أشعاراً أو أزجالاً وأمثالاً وأغاني شعبية، فإن فيه تعبيراً جلياً، بل حقيقياً، عن انعكاس ما جرى من قرارات سياسية فوقية على الناس في مراتبهم الدنيا. ومن ثم يمكننا من خلال تحليل هذا الموروث أن نستشف أو نقترب من حقيقة ما كان يجري في الطبقات العليا من السلطة السياسية، ونعرف مقدار الزيف الذي تسلل إلى أقوال وسائل أو وسائط التأريخ المعتمدة رسمياً.
2 ـ يمكن لخيال الأدباء، الذي يميلون إلى كتابة الرواية التاريخية أن يقوموا بجسر الفجوة، أو ردم الهوة، بين ما تم تسجيله وتقديمه، وما وقع بالفعل. فالأدب، ولاسيما الرواية، هو «تاريخ من لا تاريخ لهم»، حسب تعبير عبد الرحمن منيف، أو بمعنى أدق هو ما وراء التاريخ الرسمي المكتوب والمفروض. وقد تمكن هذا اللون من الأدب من فرض نفسه، كمسار لا يمكن تجاهله، حتى أن علماء التاريخ ودارسيه قد اعتمدوا «الرواية التاريخية» جزءا من التاريخ. فالأديب في قراءته العميقة حول الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث روايته، ومعرفته المتمهلة بما يجري في زمنه، وإدراكه لطبائع البشر ونفسياتهم، وانشغاله باللمحات والتصرفات الصغيرة على اعتبار أن الرواية في جانب منها هي «فن التفاصيل» بوسعه أن يملأ الفراغ.
3 ـ قيام المؤرخ بمقارنة فترة تاريخية بأختها في مرحلة لاحقة أو سابقة، ليس من منطلق أن التاريخ يكرر نفسه، حسبما هو سائد لدى كثيرين، إنما من زاوية أن بعض التصرفات الرامية إلى الاحتفاظ بالسلطة، وتلك الساعية في الاتجاه المضاد في سبيل نيل الحرية، وتحقيق العدل والكفاية، متشابهة، وأحيانا متطابقة، بين البشر، لأن طبيعتهم واحدة، وإن اختلف السياق الذي يلفهم من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر.
4 ـ المضمر في كتابات المؤرخين: فهم ومهما انحازوا إلى جانب أو اتجاه، أو أجبروا على كتابة ما يُملى عليهم، ليس بوسعهم أن يخفوا ما يريدون الانتصار له في قرار أنفسهم، لكنه قد يحتاج إلى وعي عميق وذكاء في سبيل استخلاصه، وتحديده، وتفسيره.
*روائي ومفكر مصري