بيده لا بيد غيره يصنع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنفسه الغريم تلو الآخر داخل بلاده وخارجها، حتى أنهم يفوزون عليه كما فعل أكرم إمام أوغلو المنتمي لحزب «الشعب الجمهوري» المعارض، والذي تمكّن من الفوز بجدارة برئاسة بلدية إسطنبول متقدماً على مرشح حزب «العدالة والتنمية» بن علي يلديريم بفارق كبير على الرغم من إعادة الانتخابات.
في الانتخابات الأولى كان الفارق بين المرشَّحّين 13 ألف صوت، لكن الإعادة بحجة التزوير -والتي أصرّ عليها يلديريم وحزبه-مثّلت ضربة قاصمة وموجعة للرئيس أردوغان وأنصاره إثر فوز أوغلو ثانيةً بالانتخابات، وهذه المرة بفارق 775 ألف صوت، لينهي الأخير استئثار الحزب الحاكم ببلدية إسطنبول لمدة ربع قرن.
ولا شك أن تلك النتيجة قد هزّت حزب العدالة والتنمية الحاكم كثيراً، فهي تعني أن الخطر قد بات يحدق به وبمكانته على أرض الواقع أكثر، وربما تحمل انتخابات الرئاسة المقبلة 2023 مفاجأة لن يحتملها الرئيس التركي ولا حزبه، ولا أنصاره أيضاً.
أوغلو البالغ من العمر 49 عاماً أصبح في نظر المراقبين السياسيين نجماً صاعداً على المسرح السياسي التركي، وحزبه بالتأكيد يهدد حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس أردوغان الذي قال قبل الإعلان عن نتيجة الانتخابات البلدية (من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا). ومن المؤكد أن الرئيس أردوغان وبتصريحه الواثق اعتقد أن إسطنبول ستكون مجدداً من حصة حزبه، لكنه فشل في رهانه على الشعب التركي الذي أكد أن الديمقراطية هي الطريق الأوحد الذي اختاروه، وبالتالي لن تؤثر على قرارهم أي شخصية مهما كان وزنها. وهكذا فإن إسطنبول التي كانت شاهدة على سطوع نجم أردوغان حينما أصبح حاكماً لها عام 1994، هي ذاتها التي اختارت حزباً آخر ليمثلها، وليلة إعلان النتائج (23 يونيو الماضي) احتفل أنصار الأحزاب المنافسة والمعارضة لحزب العدالة والتنمية في تقسيم، أحد أهم وأشهر ميادين العاصمة، وظلوا حتى الصباح تسكرهم النشوة بفوز إمام أوغلو، وربما بخسارة بن علي يلديريم كذلك.
إن المطّلع على الأحداث والقارئ للتحولات التي حدثت في تركيا بعد عام 2015 تحديداً، يدرك أن الرئيس التركي كابر ولا يزال يكابر، وإنْ لم يصلح ما أفسده بتلك المكابرة، فإن الناخب التركي سيتحول إلى سواه، ومن المؤكد أن انتخابات إسطنبول هي رسالة واضحة له، وملخصها أن رصيده قد بدأ في النفاد، وأن حزبه الحاكم مقبل على فترة حرجة للغاية، ورياح الغد ستهب وقد تحمل معها ما لا يسره على الإطلاق، خاصة أنه خالف العديد من المواثيق الدولية، واحتضنت بلاده –وبمعرفته- عدداً من التنظيمات الخارجة على القانون التي تم تصنيفها على أنها جماعات إرهابية، وبذلك خسر الكثير من حلفائه في الخارج، كما أن سياسته ساهمت في انهيار لا يستهان به للاقتصاد التركي، حيث فقدت الليرة أكثر من 30% من قيمتها فزادت الأسعار، وارتفع التضخم إلى مستويات خطيرة، كما تصاعدت نسبة البطالة، وكل هذا بالتأكيد يشكّل ضغطاً على الدولة والمجتمع الذي يتململ فعلاً من السياسة القائمة. ناهيك عن خسارة الحلفاء الداخليين، سواء من داخل حزبه أو من خارجه، خصوصاً إثر ما حدث في تركيا قبل ثلاثة أعوام بالضبط، أي في منتصف يوليو 2016. فالتقارير تكشف تباعاً أنه والمحيطين به كانوا على علم بما سيجري، لكنهم تركوا الأحداث تقع ليستغلوها لاحقاً في قمع وسجن عشرات الآلاف من معارضيه، وليتجاوز عدد المفصولين عن العمل 110 آلاف شخص حسب تقرير «هيومان رايتس» الصادر عام 2018.
كثيرون هم المحللون السياسيون الذين تساءلوا إن كان كل ما ذكرتُه وسواه، هو نهاية للديموقراطية على يد حزب «العدالة والتنمية» ممثلاً بالرئيس أردوغان، ذلك النهج الذي تتبناه تركيا منذ أربعينيات القرن الماضي. غير أن نتائج انتخابات البلدية تمثّل بدء النهاية –وبشكل درامي-لحقبة من الزمن كان الحزب فيها يتصدر المشهد، قابضاً بيد من حديد على مفاصل السلطة، ومتفرّداً إلى حدّ كبير بإدارة شؤونها، ومتربعاً على عرشها بلا منافس أو منازع، وحائزاً جميع السلطات التي مكّنته من إطاحة كل مخالفيه.
ندرك تماماً أن الأمس لا يشبه اليوم ولن يشبه غداً كذلك، وندرك أيضاً أن الشعب الذي جاء برئيس عبر صناديق الاقتراع سيأتي بغيره، وليخسر كل من يصاب بالكِبَر، وذاك اليوم قادم لا محالة كما قال النعمان بن المنذر:
فإن يكُ صدر هذا اليوم ولّى فإن غداً لناظره قريب