أول مرة سمعت فيها مفردة «منتكس» كانت عندما تخرجنا في المرحلة الثانوية، وكان هناك زميل لنا، ممثل في مسرح المدرسة، ممن يقدمون المسرحيات ذات الطبيعة الوعظية الإرشادية، فدارت أحاديث عالية الصوت، أن ذلك الزميل قد التحق بالعمل في شركة أرامكو، وأنه قد حلق لحيته وصار يلبس البنطلون والقميص، وبعدها صار يُعرف بوصف «المنتكس». الرجل لم يتحوّل عن دينه لدين آخر، لم يترك الصلاة ولا الصيام، ولم يهجر شيم العرب الطيبة، لكن هناك من أصر أن يسمه «بوشم شنار لا يشابهه وشم»، كما قال أحد الشعراء، بحيث أصبح ذلك الشاب مكروهاً منبوذاً من كل زملائه السابقين.
هذا هو دين «الصحوة» الذي انتشر في كل العالم العربي بعد هزيمة 67، دين يسمح لك بالدخول، ولكنه لا يسمح لك بالمغادرة. لماذا؟ ليس هناك من تفسير عقلاني لهذه الديكتاتورية الشعبية سوى أن الصحوة تنظيم سياسي، وقد كان الماركسيون قبلهم يتعاملون بنفس القسوة ضد من يترك حزبهم، لكي لا يتأثر أفراد آخرون ويتشجعوا على المغادرة. المضحك في الأمر أن الماركسيين كانوا يصفون من يخرج عنهم بـ«المرتدين»! في كلا الحالتين، هذا الوصف كان نوعاً من القمع النفسي لكي لا تنخرم الصفوف ويبدأ الجميع في المغادرة. ولا شك أن المغادرين ستزداد أعدادهم في هذه الفترة، لأن وصف «المنتكس» أصبح يطلق على رموز «الصحوة» المشهورين الذي اعتذروا عن جرائم «الصحوة»، هذا الاعتذار يعيدنا بدوره للماركسيين من جديد، فعندما انهار حائط برلين خرج أحدهم على وسائل الإعلام قائلاً: «معذرة يا رفاق، لقد كانت مزحة» يقصد الماركسية.
كبار السن، أعني جيل آبائنا، لم يرحبوا أبداً بـ«الصحوة» وكانوا يعتبرونها «ديناً جديداً مختلفاً» رغم أن كبار السن أولئك كانوا متدينين ومحافظين، لكنهم لم يرتاحوا للظاهرة الجديدة، وفي كل مرة يرتبط اسم «الصحوة» بعمليات إرهابية، كان تخوّف ونفور كبار السن يزداد من الصحوة، حتى تجلى اليوم أنهم كانوا على حق، وأن «الصحوة» كانت تقودنا نحو حروب أهلية، وأن أولئك الذين دخلوا عالم الصحوة ثم خرجوا منها، كذلك الزميل، لم يكونوا منتكسين، بل كانوا الأذكياء الذين اختاروا الحياة بدلاً من الموت، أذكياء عرفوا أن الإنسان يمكن أن يوجد التناغم في حياته من دون مرشد، وأن يبقى على القدر الكافي من التدين المعتدل، دون أن يرتبط بجماعات حركية سياسية ذات طموحات خيالية مدمرة، ودون أن يقيّد نفسه بشعارات في المظهر والملبس، تلزمه بجماعة من الجماعات. ذلك أن التدين يكون فعلاً أمراً إيجابياً عندما يكون شأناً شخصياً فردياً، يساهم في تحقيق الطمأنينة والسكينة ويحمي الإنسان من الوقوع في براثن العبثية والفوضى. لكن عندما يتحوّل التدين من الفردي إلى الجمعي، بحيث يصبح مشروع جماعة، فإنك تكون عندها قد تحركت بعيداً عن الصلة العظيمة الخاصة جداً، تلك التي تربط الإنسان بربه وتعطيه الحرية والخلاص، بحيث تكون جندياً في جيش جماعة خفية، تأتيك الأوامر من جماعة «الإخوان» في المقطم أو من «القاعدة» أو من «داعش»، أو أي جماعة أخرى، تأتيك الأوامر بشكل غير مباشر دون أن تشعر، دون أن تعلم أنك عضو في جماعة، وكيف لك أن تشعر والكل يُنكر أنه يعطي الأوامر، والكل يُنكر أنه ينتمي للجماعات، مثال ذلك د. سعد الفقيه الذي نعلم كلنا أنه عضو رسمي قيادي في جماعة «الإخوان»، إلا أنه لا يتورع عن إطلاق أغلظ الأيمان بأنه ليس من هذه الجماعة. هذا الإنكار هو ما جعل أعداداً عفيرة تنتمي لحزب سياسي وهم لا يعلمون، وعندما تتحول من الفردي إلى الجمعي، تصبح لعبة في يد أناس لا تعرفهم، تصبح قضاياك هي قضاياهم، وسيفرضون عليك الدخول في حروب لا شأن لك بها، ولن يكفيهم هذا حتى يدخلوك في حرب أو خصومة مع دولتك، والعاقل لا يكون أبداً في حالة عداء مع الدولة، بل يكون معها دائماً.
*كاتب سعودي