أظهرت قصتان، نشرتهما صحيفة «واشنطن بوست»، أمس الأول، الحقيقة الاقتصادية المعقّدة في عصرنا. وإذا ما استطاع أي مرشح «ديمقراطي» إقناع الناخبين، بأن هناك سبيلاً للخروج من المشكلات القائمة منذ وقت طويل، التي أدت إلى تلك الحقيقة الاقتصادية المعقدة، فينبغي أن يتمكن من الوصول إلى البيت الأبيض.
والقصة الأولى، أن أحدث تقرير للوظائف يكشف أن الاقتصاد أضاف 224 ألف وظيفة في يونيو، بينما لا يزال نمو الأجور أضعف مما ينبغي أن يكون في ظل التعافي الاقتصادي، وانخفاض معدلات البطالة إلى ما دون 4 في المئة. ومن الطبيعي أن يفضي ذلك إلى سلسلة من تغريدات الرئيس دونالد ترامب المفعمة بالانتصار، لا سيما أنه يؤكد دوماً أن الاقتصاد لم يكن أفضل مما هو عليه الآن على مرّ التاريخ في أميركا.
وأما القصة الثانية، التي أوردتها الصحيفة، فتتحدث عن مواطنة أميركية تدعى «سومر جونسون»، التي تقول إنها اعتقدت أن كل ما تحلم به كان على وشك أن يتحقق العام الماضي. فكانت مخطوبة، وتعمل بدوام كامل، وكانت دراستها الجامعية عبر الإنترنت تسير على ما يرام عندما تُوفيّت والدة خطيبها قبل زواجهما بأسبوع، وهو ما أفضى إلى سلسلة من النفقات الكبيرة وغير المتوقعة تركتها تكافح، من أجل سداد الفواتير ودفعتها إلى حافة الإفلاس!
وأضافت «جونسون»، البالغة من العمر 39 عاماً، وتعيش في «دوغلاسفيل» بولاية جورجيا: «لا أنفك أسمع أن الاقتصاد الحالي بين أفضل ما شهدت أميركا على الإطلاق، وأن معدلات البطالة منخفضة، خصوصاً بين الأميركيين من أصول أفريقية، لكن عندما أنظر من حولي، أتساءل أين هذا الازدهار؟ فلا يبدو لي أن هذا هو الأفضل!».
وتشير الصحيفة: على رغم من ذلك، يسجل سوق الأسهم مستويات مرتفعة قياسية، بينما أغلق مؤشر «داو جونز» لكبريات الشركات الصناعية، عند قمة جديدة يوم الأربعاء الماضي، قبيل عطلة عيد الاستقلال يوم الرابع من يوليو، وجعل الرئيس دونالد ترامب الأداء الاقتصادي القوي محور حملة إعادة انتخابه.
ونوّهت إلى أن «توزيع ثمار ذلك النمو الاقتصادي على الأميركيين كان أقل عدالة مقارنة بدورات النمو السابقة، وهو ما ترك كثيراً من المواطنين في وضع ضعيف». والأمران صحيحان في الوقت ذاته، فقد بدأ التعافي الاقتصادي بعد الركود الكبير في 2008، وعلى رغم من أن الاقتصاد ممتاز في جوانب كثيرة، لكنه متردي في جوانب كثيرة أيضاً!
وبحسب تقرير حديث، صادر عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، يقول 4 من بين كل 10 أميركيين أنهم إذا واجهوا نفقات غير متوقعة بقيمة 400 دولار، فسيتعين عليهم اقتراض الأموال أو بيع شيء من أجل سدادها، أو يقولون إنهم لن يتمكنوا من سدادها على الإطلاق. وعندما تحتاج سيارة إلى إصلاحات بمثل هذه القيمة، فإنها تمثل ضربة مالية موجهة لكثيرين، لذا لا يعتبر هذا هو أفضل اقتصاد في تاريخ أميركا.
وعلى رغم من ذلك، سبق هذا الاعتلال الجوهري في الاقتصاد الأميركي الإدارة «الجمهورية» الراهنة، ولا يمكن إلقاء كل اللوم عليها. غير أنها فعلت كل ما بوسعها لزيادة الوضع سوءاً، ليس فقط بزيادة الامتيازات لمصلحة الأثرياء والشركات، ولكن بإيجاد سبل لجعل حياة من يكافحون أكثر صعوبة.
فقد شجعت حكومات الولايات على حذف المستفيدين من برنامج الرعاية الطبية لكبار السنّ «ميديكيد»، واقترحت تقليص برنامج قسائم الغذاء للأشخاص الذين يعانون من أجل إطعام أسرهم.
والفارق الجوهري بين الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي»، والذي يتعين على «الديمقراطيين» توضيحه للناخبين، هو رؤيتهما بشأن ما ينبغي أن يكون الوضع عليه، وأنه حتى على رغم من أن معدلات البطالة منخفضة انخفاضاً شديداً، ويمكن للجميع تقريباً إيجاد فرصة عمل، إلا أن ملايين من الأميركيين سيواجهون «كارثة مالية»، إذا لم يحصلوا على راتب شهر واحد!
وطريقة توضيح ذلك للناخبين، وهو ما لم يفعله «الديمقراطيون» بدرجة كافية حتى الآن، هي وصف المستقبل الاقتصادي المختلف الذي يرنون إليه. وهو اقتصاد لا توجد فيه مثل تلك المخاوف من الظروف المالية، بحيث لا يعيش أحد في الخوف من أنه لن يتمكن من التكيف مع اقتطاعات من الراتب أو الزيادات في الفواتير، إذا تعرض لمرض أو حادث، ناهيك عن خسارة تغطية تأمينه الصحي. أضف إلى ذلك بيئة اقتصادية يمكن فيها توفير رعاية للأطفال، وتدفع كل وظيفة حد أدنى يمكن فيه للموظف أن يتحمل على الأقل تكاليف الحياة، وإذا ما أراد المواطن الأميركي أو أبناؤه الالتحاق بالجامعة، فلن يُكبّل بالديون طوال حياته.
وعلى «الديمقراطيين»، في ضوء هذا المستقبل البديل، ليس فقط توجيه رسالة إيجابية ومفعمة بالأمل، ولكن أيضاً توجيه رسالة تثير جنون المستفيدين من الوضع القائم، سواء البنوك في وول ستريت، أو قوى الضغط التابعة لكبريات الشركات أو الحزب «الجمهوري» بأسره.
*كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»