شاركت أمتنا في كل حوارات الثقافات، (شاركنا في حوار مع الصين والهند واليابان وإيران والاتحاد الأوروبي، وأفريقيا وعدد من دول آسيا الخارجة من الاتحاد السوفييتي، وقد عقدنا هذه الحوارات، بمشاركة عدد كبير من وزارات الثقافة العربية، وباسم الجامعة العربية، وكان ذلك رداً على ما سمي (صدام الحضارات)، وأعتقد بأننا نجحنا في تقديم صورة مشرقة عن استعداد الأمة العربية والإسلامية لتقبل ثقافات العالم، وقد جاءت هذه المشاركات عربية الشكل والمضمون. وكان الآخرون يخاطبوننا بوصفنا أمة.
ولقد خاضت عدة دول عربية غمار العولمة في تجلياتها الفكرية والثقافية والاقتصادية، وحسبنا نموذجاً ناصعاً ما قدمته دولة الإمارات، التي أصبحت نموذجاً يحتذى في الانفتاح على الثقافات الإنسانية، بل أصبحت المثال الأجود عن تجليات الحداثة العمرانية والاجتماعية في العالم كله، دون أن تفقد هويتها وخصائصها الثقافية.
ولئن كنت تحدثت عن التسامح في الدين وفي السياسة عبر هذه العجالة، فإن صلب موضوع التسامح أخلاقي بحت، ولا بد لي من الإشارة إلى موقف أخلاقي استثنائي نعيشه اليوم، في قبول الآخر لثقافتنا العربية واعترافه بها، وهو ذاك الاستقبال الإنساني الجميل لمئات الآلاف من اللاجئين العرب، وجلّهم من السوريين الذين تشردوا وخاضوا البحر المتوسط رغم مخاطر الغرق، وقد غرق آلاف منهم، لكن من وصلوا إلى شواطئ الأمان الأوربية وجدوا إنسانيين كباراً يتنظرونهم، ويسارعون إلى معونتهم، ويفتحون لهم الملاجيء، ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من مساكن ومدارس ومشافٍ، ومن مستلزمات الحياة، ولا أحد يمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية، ومن الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية.
لقد حدث مثيل هذا الاستقبال الحافل للاجئين، يوم تدفقت الهجرات من آسيا وأوربا على بلاد الشام وعلى مصر، التي وفد إليها هاربون من الحرب الأولى ثم من الثانية، وكثير منهم جاؤوا من دول البلقان، مثل يوغسلافيا ورومانيا وبلغاريا، وبعض القادمين كانوا يهوداً فروا من ملاحقة هتلر، وأما بلاد الشام فقد تدفق إليها عدد ضخم من الأرمن والشركس وسواهم كثير، حتى إن أحد أهم أحياء دمشق لا يزال يحمل اسم حي المهاجرين.
وقد أشرت إلى هذا الاحتواء الإنساني المتبادل، لأنه من صنع الشعوب التي سرعان ما تجمعها مشاعر الإنسانية الموحدة، وهي قائمة على مفاهيم التسامح والتوادد، وعلى سلسلة من القيم النبيلة التي هي مشترك إنساني نبيل.
لقد كانت مبادرة دولة الإمارات في عقد قمم عالمية للتسامح، واعتبار التعايش المشترك سبيلاً لتغيير المجتمعات، ريادة في العمل الإنساني والسياسي معاً، واستباقاً لما ينبغي أن يؤسسه المجتمع الدولي، لإنهاء الصراعات، ودفع الحوارات بالتي هي أحسن، وجعل العقل والحكمة منهلين رئيسين، لحل المشكلات المتفاقمة دولياً، وهذا هو جوهر العمل السياسي الرشيد.
إن العالم المتوتر اليوم، يعيش على فوهة بركان عبر تصعيد مخيف للتنافس العسكري، مما يعيد إلى الأذهان صراعات (الحرب الباردة) وهي القابلة للاشتعال فوراً، ولا نجاة للبشرية من حماقة التنافس في التطور العسكري الفتاك، سوى الدخول الأرحب في عالم التسامح الأخلاقي والديني والسياسي، وحل القضايا الكبرى على موائد الحوار، بدل حلها الدموي في ساحات القتال الذي تدفع الشعوب فيه ملايين الأرواح الجديرة بالحياة، وحسب البشرية ما ذاقت من ويلات الحروب، وهي إن حدثت اليوم أو في المستقبل فإن طاقاتها التدميرية، ستفوق ما حدث في التاريخ كله.
أخيراً أذكّر بقاعدة أخلاقية شهيرة تقول: (فلنتعاون فيما نتفق حوله، وليعذر بعضنا بعضاً، فيما نختلف فيه) والاختلاف سنة من سنن الحياة، قال تعالى في سورة «هود»: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ).
*وزير الثقافة السوري السابق