طرح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، العام الماضي، مجموعة من «المتطلبات الأساسية»، التي يتعين على إيران الوفاء بها، قبل أن تنظر الولايات المتحدة في تخفيف بعض من أشد العقوبات الاقتصادية عليها. وهذه المتطلبات تضمنت إنهاء إيران دعمها للجماعات المسلحة والإرهابية، التي تعمل بالوكالة عن طهران، وإشاعة السلام مع جيرانها، والإذعان لنظام تفتيش، يضمن أنها لن تسعى قط لامتلاك سلاح نووي.
وكان جون بولتون، مستشار الأمن القومي لترامب، مؤيداً قوياً لتغيير نظام الحكم الإيراني. لكن ترامب اقترح أن أهدافه تقتصر على إعادة التفاوض في اتفاق نووي، توصل إليه سلفه باراك أوباما مع طهران عام 2015. ويصف أنصار ترامب أن إتباعه لنهج بالغ الغموض، يمثل جزءاً محورياً من عبقريته التفاوضية، التي تتمثل في تطبيق «فن إبرام الصفقات» على شؤون الحرب والسلام.
ويرى «مارك دوبوفيتز»، الرئيس التنفيذي لـ «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات»، وهي مركز بحثي في السياسة الخارجية ذو ميول محافظة، أن «ترامب يتفاوض عن طريق التقدم بالحد الأقصى من المطالب، والتصرف كأكثر الناس تهوراً في الغرفة، ثم يحصل على صفقة يراها مقبولة، ويقدمها باعتبارها أعظم صفقة على الإطلاق». لكن السؤال هو: هل يدفع مثل هذا النهج الذي لا يمكن التنبؤ به إيران المحطمة اقتصادياً إلى طاولة التفاوض، أو يتمخض عن نظام محاصر يدفع الولايات المتحدة بشكل أكبر نحو حرب؟
ويرى «جاك سوليفان»، الذي شارك في مفاوضات سرية مبكرة مع إيران أثناء إدارة أوباما، أنه «لا مزية في ألا يعرف أحد أهدافك، وألا يصدق أحد أن لديك أهدافاً. يتعين أن يكون هناك منطق يستطيع نظراؤك فهمه. إذا كنت لا تقدم لهم شيئاً، فلا سبيل إلى جعلهم يقومون بما تريده»، ونهج ترامب يغامر في الوقت نفسه بالوقوع في سوء تقديرات قد تؤدي إلى حرب. وهذه المخاطر اتضحت بشكل خاص في الأيام القليلة الماضية، حين خرج ترامب في غضون ساعات أو ربما دقائق بتصوره عن شن ضربات كان من الممكن أن تقتل نحو 150 إيرانياً رداً على إسقاط طائرة أميركية بلا طيار.
وأوقف الرئيس تنفيذ الضربات، لأنه بحسب قوله، قرر أنها لم تكن «متناسبة». ثم تعهد، في تغريدة على تويتر، بأن «إيران لن تستطيع أبداً امتلاك أسلحة نووية، ليس ضد الولايات المتحدة وليس ضد العالم!»، والفوضى تركت، حتى حلفاء ترامب ومؤيدوه، في وسائل الإعلام في حالة ارتباك. وفي الساعات التالية لإلغاء ترامب للضربات، أشاد «توكر كارلسون»، مقدم البرامج في «فوكس نيوز»، الذي قدم النصح للرئيس في الشؤون السياسية، بترامب لمقاومته مستشاريه الذين كانوا «يطالبون بحرب جديدة» مع إيران. وفي اليوم التالي، شعر «بيت هيجسيث»، مضيف برنامج «فوكس وأصدقاؤها»، وهو البرنامج الصباحي المفضل للرئيس، بالقلق من أن تردد ترامب قد يزيد إيران جسارة ويجعل الولايات المتحدة «تبدو ضعيفة». وأضاف «هيجسيث» أن «هذا ليس حسناً».
ونهج تعامل الرئيس مع إيران يتبع نمطاً، ربما زاد من تعقيد الأزمات الأخرى في السياسة الخارجية، التي تستبد بالبيت الأبيض. فقد اقترح «بولتون»، في ربيع العام الجاري، أن ترامب مستعد لاستخدام القوة العسكرية للتخلص من الرئيس الفنزويلي «نيكولاس مادورو»، لصالح زعيم المعارضة «خوان جوايدو»، الذي أعلن ترامب أنه الزعيم الشرعي للبلاد. وذكر «فرناندو كوتز»، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي في إدارة ترامب وأوباما، والزميل البارز في شركة «كوهن جروب» الاستشارية، أن بعض زعماء المعارضة في كاراكاس توقعوا ظهور الفرقة 101، المحمولة جواً من الجيش الأميركي في شوارع العاصمة الفنزويلية. لكن ترامب تراجع بهدوء، فيما يبدو، عن الخيار العسكري.
وفي كوريا الشمالية، بدأ ترامب بالمثل، بحديث شديد اللهجة فتح الطريق إلى شقاق داخلي، ثم انتهى بغموض بشأن أهداف سياسة الرئيس طويلة الأمد. ويرى «جونج باك»، مسؤول الاستخبارات الأميركي السابق والزميل البارز في معهد «بروكينجز»، أن تعامل ترامب مع إيران ينقل رسالة إلى الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونج أون، مفادها أن ترامب ليس جاداً في تهديداته. ومضى «باك» يقول: إن «كيم قد يجد أن أفضل طريقة للرد على تهديدات ترامب، هي المزيد من العدوان، لأنك تبدأ في التقليل من شأن التهديدات والعواقب الحقيقية لأفعالك».
وما يتضح باستمرار، هو أن لا أحد غير ترامب لديه فهم واضح لسياسته أو الغاية النهائية المرغوبة. وهذا يجعل عمل الحكومة صعباً. وبالنسبة للحلفاء في أوروبا أو في سيول، فهذا الارتباك «يعزز فحسب الاعتقاد بأن الشخص الوحيد الذي يجب أن يتحدثوا إليه في الحكومة الأميركية هو الرئيس» بحسب قول فيكتور تشا، مسؤول البيت الأبيض السابق في إدارة جورج بوش الابن.
ويرى «تشا» أن هذا النهج السياسي «سيجعل من المستحيل التوصل إلى مفاوضات مجدية، مما سيجعل القمة التالية أقل أهمية. إنها حلقة جهنمية». وأكبر المخاطر حالياً تتعلق بإيران، لأن هناك احتمالات ضعيفة لإجراء محادثات، كما تتصاعد فيما يبدو فرص الوقوع في خطأ يقود إلى حرب. وأعلن ترامب مراراً أنه يروقه التفاوض مع إيران، لكن واشنطن وطهران لم تضعا مجموعة واضحة من المطالب، التي قد تؤدي إلى العودة إلى طاولة التفاوض. ويرى «كولين كال»، المسؤول السابق في وزارة الدفاع في إدارة أوباما، أن «كلا الجانبين يرى أنه يتصرف بطريقة دفاعية، وأن الجانب الآخر هو المعتدي. وهذا يهيئ الأمور لعملية تصاعد نمطية تقود إلى صراع، حتى لو كان كلا الجانبين يفضل تجنبه».
*محرر شؤون الأمن القومي في «واشنطن بوست»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»