تسرب لمخيلتي، العديد من الصور، وأنا أقلّب صفحات أحد الكتب، حاملاً اسم «المؤمن القوي»، ومتحدثاً بحروف أقوى من المنطوقة، عن أربعين مصدراً للقوة. ما لفتني منها قوة التسامح، وقوة الصمت، وقوة الممكن. توقفت عندها لتهمس لي نفسي معاتبةً: «وأين قوة العقل؟ فالمؤمن القوي خير وأبقى إلى الله من المؤمن الضعيف، وفِي كلٍ خير»!، ولم يخطر ببالي معنى لها، أقوم من قوة فهم الدين ،الذي وُجد ليكون لنا بوصلةً وقوّةً في الحياة.
وأيضاً، تنظيم حركة الحياة، لا تعقيدها، مرسخةً مراسي الشريعة الثابتة، وتاركةً ما استحدث من الأمور الحياتية، وتدابيرها لنشاطات العقول وطموحات النفس الإنسانية، وليس أدل على ذلك من قول المصطفى: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»، حين رجع إليه الصحابة في تأبير النخل، التي حكم لهم بها في المرة الأولى، بحكمه الذاتي وليد نفسه، ولم تكن النتائج كالمرجوة. وحين كان موقفاً حاصلاً مع حامل الرسالة نبي الأمة، لزم الاستفادة والوعي بمقاصده، فقطعاً لم يكن عبثاً، فالسنة النبوية عند المحدّثين، هي: «ما ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير»، فيعتبر قوله - صلى الله عليه وسلم- إشعاراً بأن العلم التجريبي لا يتدخل فيه وحي ولا سماء، لذلك فالتدبر والتفكر والإمعان هو السبيل، الذي أوجبه علينا الله تعالى لتحقيق المصالح الدنيوية «لعلهم يتفكرون»، أما تدخل التشريع السماوي، فيكون بمتعلقات الركائز والحصانات العامة لإدارة الخلاف، وتحويله إلى قوة إيمانية.
وحين استحال تحقيق مقاصد الشريعة، في مكان ينعدم فيه الأمن والاستقرار، الذي يضمن حفظ «الضرورات الخمس»، وجب صون الأوطان، بوحدتها الترابية والمجتمعية، وإدراك ضرورة ذلك ووجوبه في الشريعة الإسلامية، المبنية على قيم التسامح والمآخاة والرحمة، التي لم ولن تكن يوماً - كما يعتقد البعض - درباً للصعود عليها، وصولاً لسدة الحكم وبناء المشاريع السياسوية، خلف شعارات تنظيرية لا تمس الإسلام بصلة، فالإسلام ليس شهادة كفاءة سياسية، بل ميثاق قيم أخلاقية، وتماسك اجتماعي، ومنبر طمأنينة ومحبة.
وفي السياق نفسه، فإن ما حمله البعض للديانات، وبخاصة الإسلام، يعد تعدياً لا خدمةً وطاعةً لأوامره، إذ إن الإسلام الذي بني على خمس، يبنى بتنظيرهم الثقيل جداً على الدين، على الكثير من الدواخل غير المنظمة، إذ لا بد من التمييز والتفريق بين ما أوجده الله، ليكون ركيزة وعماداً لنظام الحياة، وبين ما دعا منهج وشريعة الحق لإيجاده، فالإنسان تميز بعقله عن كافة المخلوقات، وبرز بما أعطي من تكليف، فهو مخير لا مسير، في تدبير أحواله وشؤون حياته، «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها»، ولنا أن نتفكر لما للتخيير من مستلزمات وأساليب تمكن الأفراد من القيام بدورهم المنوط لهم بشكل صحيح.
وعندما نقابل ذلك، بما يتصدر لعقولنا وأسماعنا يومياً، من خلال مئات الكلمات والصور والتعابير والأحكام، المطلقة من وراء الشاشات الكبيرة والصغيرة، نجد إجابة لحالة التناقض التي يقع كثر ضحيتها، فالدين ليس بغريب، ولا متغير في جوهره، بل له من الثوابت والرواسخ ما يضمن نظام أساس المسيرة الحياتية كاملةً، التي وجد الإنسان للبناء عليها، ولكن المستهجن والدخيل هو ما أضافه البعض مشكلاً محاولات تمرد على الفطرة القويمة السليمة للدين، سواء أكان ذلك بفهمه ما وراء أحكامه المطلقة، أم دونه.
وحين لزم النشر المفاهيمي الدقيق، بمعناه السليم والنقي لمقاصد الشريعة، وبخاصة في موضوع طبيعة العلاقة بين الدين والدولة، ووظيفة كل منهما في تسيير أمور الحياة، استلزم إيجاد استعداد كافٍ لتلقي واستيعاب الرسالة الهادفة لتوعية الأجيال، ذلك من خلال استراتيجية محكمة تتصدرها القوى الإعلامية البارزة، ساعيةً لتأصيل معنى الولاء للوطن والمواطنة، بالشكل الذي يتوافق والبنية السليمة للعقد الاجتماعي، مما يؤدي لفسخ جسور اغتيال الحقيقة وتحويرها، واستغلالها باسم الدين، على حساب بناء ونهضة الدول.
وتتجلى فائدة، بل قيمة أن تكون مسلماً فاهماً واعياً مستعيناً بـ«قوة العقل» المتجددة، بالسمو عن الفروع الشكلية، التي يغرق بها محدودو البصيرة، والمضي قدماً نحو تحقيق التعايش والسلام بين الشعوب، وتجاهل الإغراق بجهل فكرة «الصمود»، وعدم الانصياع تحت تأثير «نظرية المؤامرة»، بل الالتفات لضرورات واحتياجات اللُحمة الوطنية، والنهوض بوليد جديد، دون تراخٍ، مقابل كل ما قد يشوبها، لنثبت لأنفسنا أولاً، ثم للعالم أننا قادرون على استيعاب ومعايشة فكرة أن نكون مسلمين ومواطنين بالوقت ذاته، وبلا حرج.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة