قال ابن خلدون، (732-808 هجرية)، في مقدمته الشهيرة، نقلاً عن قدامى العلماء عند الكلام على علم الأدب: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم، أن أصول هذا الفن، وأركانه، أربعة دواوين: وهي أدب الكتاب، لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة، فتبعٌ له، وفروع عنها».
توفي أبو عثمان عمرو بن بحر، الجاحظ، (ت 868 ميلادية)، بعد أن عاش في العصر العباسي، وعاصر أكثر من عشرة خلفاء عباسيين، وعُرف بكونه الأديب المتفرد بجمال الأسلوب، وبراعة اللفظ، وعبقرية انتخاب العبارة، مع موسوعية نادرةٍ، نسبةً لزمانه في القرن الثامن الميلادي، ما جعله يطرق فنوناً متعددة، باحترافية توازي المتخصص في الفن.
ابتدأ الجاحظ، كتابه الشهير، (البيان والتبيين)، بقوله: «اللهم إنا نعوذُ بك من فتنة القول، كما نعوذُ بك من فتنة العمل، ونعوذُ بك من التكلّف لما لا نُحسِن، كما نعوذ بك من العُجب بما نُحسِن، ونعوذ بك من السَلّاطة والهذر، كما نعوذ بك من العي والحصر». قال المحقق، عبدالسلام هارون: السلاطة، هي حدة اللسان والصخب، والهذر كثرة الكلام في خطأ.
في (الحيوان)، كتابه الأثير، مزج الجاحظ، الأدبَ، بما توصل إليه من معارف عن الحيوانات، ومحاسنها، وما قيل فيها، وارتباط العرب بها، حتى لكأنك تشاهد وأنت تقرأ الكتاب، قناة وثائقية مختصة بالطبيعة وغرائبها، وأحوالها، وأهوالها.
وفي كتابه، (البخلاء)، تجد منتجاً أدبياً شديد السخرية، حاد التصور، نافذ البصيرة، يسبر غور علاقة النفس البشرية بأكل التراث، والسباق على المال، والشراهة في الإقبال على الطعام، والزحف وراء الولائم، مع تتبع أحوال البخلاء، ونوادر قصصهم، بما يجعل كتابته محاضرة بليغة، وكأنها كتبت اليوم.
ثم في (البيان والتبيين)، يغوص بموسوعية بالغة الجرأة في عوالم الأدب، وفيه يعتبر البلاغة: «إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة، دون فضل أو تقصير، أي دون تطويل أو إيجاز، وهذا يعني المساواة، فالكلام البليغ، هو الذي نستخدم فيه من الألفاظ، القدر الضروري، لإبلاغ المعنى إلى السامع».
وفيه يبحث بين الوضوح والغامض، بين المعنى والمبنى، وهو عمود في قصر مؤلفاته، أحسبُ من لم يطلع عليه، حُرِم من كنزٍ أدبي رفيع.
وكثيراً ما ينسب أقوالاً إلى مجهول، فيقول: كان يُقال، أو قالوا، وهي من قوله.
وله من الرسائل والكتب عشرات، كثرت فيها المحاسن وصغرت بها العثرات، فقد صهر ثمين المعادن في حبره، وصاغ نفيس اللآلئ من حرفه، لم يغنه النص البديع عن تكثيف العبارة، وملء قالب الأسلوب الجميل بمحتوى نفيس، حتى عُدّ من الأدباء المبكرين، الذين جمعوا بين حسن المبنى وغنى المعنى، ولا يُذكر أدب العرب غفلاً من أبي عثمان، وأنى لذلك أن يكون.

وللجاحظ، ميزة فكرية، يجب أن لا نغفل عنها، أنه من أوائل من حرروا الأدب من سطوة الأيديولوجيا، فهو لم يفرض على قرائه مذهبه العقدي، حيث كان من المتحمسين للمعتزلة. لقد ساهم الجاحظ، في «أنسنة الأدب»، ليكون خارج منطقة التجاذب والصراع، فُجُلّ موضوعاته تبحث في المشترك الإنساني، بيوميات وموضوعات وأسئلة، وخلجات ترد على خواطر الفرد، هذا رغم دخوله سجالات للدفاع عن المعتزلة، خارج نطاق مباحثه الأساسية الأدبية.
لم تكن مهمة الأدب يوماً، شعراً أو نثراً، إلا أن مخاطبة كل إنسان بعمومية الجامع الإنساني، يفعل ذلك الكبار منذ القدم، منذ شعر العرب الأول (الجاهلي)، وقبلها إلياذة هوميروس، مروراً بشكسبير، وجوته، وساباتو، وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، فالنتاج الأدبي يخاطب الذائقة الإنسانية بشموليتها.
ميزة الجاحظ، السابقة، تأتي مع إيمانه العميق، بطبيعة الاختلاف بين البشر، فتراه في كتابه، (الرسائل)، يقول: «وليس يكون أن تصفو الدنيا، وتنقى من الفساد والمكروه، حتى يموت جميع الخلاف، وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون، لأن ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل».
هذا هو أبو عثمان، الجاحظ، بحر لا ساحل له، من علامات اللغة العربية الفارقة، كأنما كان يصف أسلوبه، حين قال إن البلاغة: «أداة يظهر بها حُسن البيان، وظاهر يُخبر عن ضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وناطق يُرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الحقائق».
*سفير المملكة في الإمارات.