أخيراً نفذ برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة تهديده وأوقف المساعدات التي يقدمها للمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بعد انتهاء المهلة التي منحها لهم مدير البرنامج كي يقبلوا المقترح القاضي باعتماد نظام بصمة العين للمستفيدين، من أجل منع التلاعب بتوزيع المساعدات، على أن يستمر البرنامج في تقديم المساعدات في المناطق الخاضعة للسلطة الشرعية حيث لم تُسَجل أي مخالفة أو تدخل من قِبَل السلطات المعنية في أعماله.
وأصل المسألة أن الحوثيين يرفضون توثيق المستفيدين من خلال بصمة العين، لأنهم قاموا بضم الآلاف من مقاتليهم إلى قوائم المستفيدين، ولهذا يخشون افتضاح أمرهم حال وجود نظام صارم وموثوق به لتسجيل المستفيدين. وقد نُسِب لناشطين في مناطق سيطرة الحوثيين أن عملية توزيع المساعدات هناك مسيسة بالكامل، وأنهم يحتكرون عمليات النقل والتخزين لصالح تجار تابعين لهم. ويُلاحظ أن هذه الشكوى موجودة في صنعاء، فما بالنا بالمناطق البعيدة عنها. والمفارقة أن برنامج المساعدات الغذائية لليمن ممول من الدول الخليجية الداعمة للشرعية، وهي بالتأكيد لم تقصد بمساعداتها هذه دعم الحوثيين ومجهودهم الحربى وإنما التخفيف من معاناة ذلك القطاع من الشعب اليمنى الذي شاءت الظروف أن يخضع للسيطرة الحوثية.
وقد حاول الحوثيون دفع هذه الفضيحة فسارعوا إلى اتهام البرنامج بتجويع اليمنيين، وزادوا بأنه يجلب لليمن أغذية فاسدة! والسؤال هو: لماذا لم تفسد الأغذية إلا بعد أن افتضح أمر سرقتها؟
ليست هذه الأزمة بجديدة، ذلك أن شكوك برنامج الغذاء العالمي وتحفظاته على طريقة إدارة الحوثيين لعملية توزيع المساعدات الغذائية تكررت، وفي أواخر العام الماضي اتهم البرنامج الحوثيين بعدم إيصال مساعدات الإغاثة إلى مستحقيها بعد أن تكررت التقارير عن أن هذه المساعدات المجانية تُعرض للبيع في أسواق صنعاء من قِبَل جهة خاضعة لسيطرة الحوثيين، كما أفادت مصادر البرنامج بتلقي بلاغات من جهات أخرى عن بيع المساعدات في السوق السوداء، ووصف المدير التنفيذي للبرنامج هذا السلوك بأنه «يرقى إلى سرقة الطعام من أفواه الجائعين»، ودعا المسؤولين الحوثيين إلى اتخاذ إجراءات حازمة لمنع التلاعب بالمساعدات الغذائية، وهدد بأنه إذا لم يحدث ذلك لن يكون أمامه خيار سوى وقف المساعدات. وقد صدق الرجل ونفذ تهديده بعد صبر ستة شهور، في خطوة يُرجى أن تكون بداية لإصلاح المسار الأممي في معالجة الصراع الراهن في اليمن. فقد بدأ هذا المسار بداية صحيحة بقرار مجلس الأمن 2216 لعام 2015 الذي انحاز للشرعية اليمنية وطالب المتمردين بتسليم الأسلحة التي استولوا عليها من القوات المسلحة اليمنية وفرض عقوبات على قياداتهم وقيادات المتواطئين معهم، غير أنه مع استمرار الصراع العسكري دون حسم بدأت الأمم المتحدة من خلال مبعوثيها لليمن، وآخرهم المبعوث الحالي مارتن جريفيث، تتعامل مع طرفي الصراع باعتبارهما طرفين متكافئين، وكانت هذه هي الخطيئة الأولى للسياسة الأممية في اليمن التي انحرفت بذلك عن غايتها الأصلية وهي تنفيذ القرار2216، بما تضمنه ذلك الانحراف من إعطاء الفرصة للحوثيين للماطلة والتعويق. والأدهى أن الأمم المتحدة قد انتفضت بدعوى الاعتبارات الإنسانية عندما بدا واضحاً أن قوات الشرعية والتحالف العربي المناصر لها على وشك الاستيلاء على الحديدة ومينائها، وكأن هذه الاعتبارات ليست مُهدَرة بممارسات الحوثيين. وفي هذا الإطار تم التوصل إلى اتفاق ستوكهولم، وكانت هذه هي الخطيئة الثانية.
والواقع أن «خطايا» الأمم المتحدة في اليمن تنبع من خطأ النهج الراهن لمعالجتها الصراع هناك، فبينما بدأ هذا النهج بداية سليمة بالقرار 2216، فإنه سرعان ما انحرف عن جوهر القرار نفسه، حيث أصبحت السياسة الأممية تساوي عملياً بين طرفي الصراع مع أن أحدهما مدانٌ على نحو مطلق بالقرار المذكور. وأُضيف لهذا الانحراف انحراف ثان بالمعالجة الجزئية للصراع كما بدا في اتفاق ستوكهولم، بل والتغاضي عن المناورات المكشوفة للحوثيين في موضوع سحب مليشياتهم من ميناء الحديدة. والواقع أن خيبة الأمم المتحدة في اليمن ممتدة بطول الصراعات العربية في سوريا وليبيا، فهل يكون قرار برنامج الغذاء العالمي الأخير نقطة بداية لتصحيح السياسة الأممية تجاه اليمن وغيره؟ فالأمر يتعلق بتصحيح علينا جميعاً أن نجتهد للبحث في عناصره.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة