في عيادة مؤقتة مقامة على أطراف مخيم «الهول» في سوريا، يبكي وينتحب عشرات من آخر وأصغر سكان «خلافة» تنظيم «داعش» الإرهابي المزعومة، بينما ينتظرون رؤية الطبيب الوحيد الموجود. وقد ساهم نقص الغذاء والمياه النظيفة والأدوية، مع قدوم حرارة فصل الصيف اللافحة، في تدهور الحالات الصحية في المخيم، الذي يؤوي أكثر من 73 ألف فرد من أسر مقاتلي «داعش»، الذين بقوا بعض الوقت في قرية الباغوز، آخر جيوب التنظيم، في مارس الماضي.
ويشكل الأطفال البالغ عددهم 49 ألفاً، الغالبية العظمى من المقيمين في المخيم، و95 في المئة منهم دون سنّ الـ12، بحسب مسؤولين أمميين وأكراد.
والأطفال هم أكثر من يتجرّع مرارة المعاناة، إذ سقط المئات منهم فريسة للأمراض، خصوصاً الإسهال، بحسب رمضان زاهر الذي يدير العيادة لصالح الهلال الأحمر الكردي. ويكتشف الموظفون الطبيون كذلك عدداً صغيراً، وإن كان متزايداً، من حالات سوء التغذية الحاد لدى هؤلاء الأطفال الذين يدفعون ثمن اختيارات آبائهم.
وتحمل الأطفال شهوراً أو سنوات من الضربات الجوية القوية، وكانت أسرهم تنقلهم من مكان إلى آخر تحت القصف مع تضاؤل الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم، وهم الآن يواجهون مستقبلاً غامضاً، حيث يعيشون إلى أجل غير مسمى، فيما يرقى إلى كونه معسكر اعتقال منصوب في الصحراء، ومحاط بأسلاك شائكة وحرّاس مسلحين.
وأولئك الأطفال، غير المرغوبين في مجتمعاتهم السابقة، والذين فقدوا في كثير من الحالات أحد أبويهم على الأقل، مرعوبون من الأهوال التي واجهوها. ولا توجد في المخيم مدارس، لذلك يبقى هؤلاء الأطفال عرضة لخطر التعاليم التي يغرسها فيهم من تبقى من آبائهم أو أولياء أمورهم الأحياء، الذين كانوا من بين أشد مؤيدي «داعش» وأكثرهم تعصباً.
ويصل كثير من أولئك الأطفال جائعين، بعد أشهر من العيش تحت الحصار. وقد مات أكثر من 300 طفل في الأسابيع الأولى بعد بدء تدفقهم في مارس الماضي، بسبب الجوع والإصابات التي تعرضوا لها أثناء القتال. ودُفنت أجسادهم بجوار تلة خارج المدينة.
وبعض هؤلاء الأطفال ولدوا جوعى، فمروة ابنة الشهرين، كانت ترقد هامدة على منضدة الفحص أضعف حتى من أن تبكي، وقد برزت ضلوعها من قفصها الصدري. وبرفق شديد، رفع طبيب الأطفال في العيادة «عنتر سينو»، ذراعها النحيل لوضع شريط قياس ملون حوله. وتحول شريط القياس إلى اللون الأحمر، في إشارة إلى أنها تعاني من نقص حاد في التغذية، بحسب الطبيب. وقال «سينو»: «إن العيادة، وهي عبارة عن هيكل خرساني متسخ وبه مرافق قليلة، تسجل نحو 4 أطفال على الأقل يومياً، معظمهم رضع لا تأكل أمهاتهم ما يكفي لإفراز الحليب». وقالت والدة مروة: إنه ليس لديها حليب منذ ولادة طفلتها، بعد أيام قليلة على وصولها إلى المخيم، قادمةً من قرية الباغوز مقيدةً مع أطفالها الخمسة. وقد قُتل والدهم في هجوم جوي.
وبدأت جهود المساعدات في التزايد، فاللجنة الدولية للصليب الأحمر بصدد افتتاح مستشفى ميداني مجهز. وتتأهب منظمة الصحة العالمية لتوفير الكلور، من أجل تحسين جودة المياه.
وباتت حالات مثل حالة مروة تُنقل بالإسعاف إلى إحدى المستشفيات التي تديرها الحكومة السورية في مدينة الحسكة. بيد أن عمال الإغاثة أشاروا إلى أنه من غير المعتاد أن يتعرض الأطفال، لسوء تغذية حاد في مخيم يشرف عليه مجتمع المساعدات الدولية.
وأشار «أمجد يامن»، من منظمة «أنقذوا الأطفال»، إلى أن عدم وجود مساعدات كافية راجع إلى الأعداد الهائلة، بصورة غير متوقعة من المدنيين الذين كانوا متواجدين في قرية الباغوز التي كان يسيطر عليها «داعش». وأضاف: «كان قد طُلب من عمال الإغاثة التأهب لقدوم زهاء 10 آلاف مدني، لكن بدلاً من ذلك وصل 60 ألفاً لينضموا إلى تسعة آلاف مواطن عراقي كانوا موجودين بالفعل في مخيم الهول، بعد الفرار من القتال على طول الحدود العراقية».
وهناك زهاء 8000 طفل أجنبي بين الأطفال الذين يعيشون حالياً في المخيم، من أكثر من 10 دول حول العالم، وهم إما ولدوا في ظل «داعش» أو انتقلوا مع آبائهم. ويبدو أن بضعة مئات من هؤلاء لم ينجُ أيٌّ من آبائهم على الإطلاق. وأوضح «يامن» أن مسؤولي المخيم ليسوا متأكدين من وضع جميع الأطفال، فهناك أيتام أخذهم آباء فقدوا أطفالهم، وبعض الأطفال صغار جداً، لدرجة أنهم لا يعرفوا من أين هم، أو يتحدثون لغات لا يفهمها الموظفون.
وعلى مضض، بدأت بعض حكومات الدول الأجنبية استعادة بعض الأيتام، ومن هذه الدول النرويج وأوزباكستان والسويد. وذكر عبدالرحمن عمر، رئيس قسم العلاقات الخارجية في الإدارة الكردية، التي تدير المنطقة الخاضعة للحكم الذاتي في شمال شرق سوريا، حيث يوجد المخيم، أن الولايات المتحدة استعادت ستة أطفال وامرأتين في بداية الشهر الجاري، لكن معظم الحكومات ترفض المساعدة في إعادة الغالبية العظمى من الأطفال وأمهاتهم.
وقال عمر: إن هناك 20 ألف طفل آخر من العراقيين، وتأمل الإدارة أن تعيدهم الحكومة العراقية، لكن لم يعد سوى 5000 منهم طواعية إلى العراق، ولن تجبرهم الإدارة على العودة.
ومعظم المقيمين البالغين من النساء اللاتي فررن مع أطفالهن في بداية العام الجاري. وأزواجهن إما قتلوا أو بين أكثر من 6000 داعشي مسجونين حالياً في سجون كردية.
ليز سلاي
*رئيسة مكتب «واشنطن بوست» في بيروت
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»