أظهرت دراسة تعد هي الأكبر من نوعها في العالم، حيث شملت 140 ألف شخص في 140 دولة، حدوث تراجع في الثقة بين العامة، في فعالية وأمن التطعيمات الطبية، وهو الاتجاه الذي كانت قد صنفته سابقاً منظمة الصحة العالمية على أنه أحد التحديات الصحية الكبرى العشر التي تواجه أفراد الجنس البشري خلال السنوات والعقود القليلة القادمة، لما قد ينتج عنه من تبعات صحية كارثية.
وتبحث الدراسة المعنية (Wellcome Global Monitor)، والتي تمولها جهات خيرية بريطانية، في إدراك وشعور عامة الناس، تجاه القضايا العلمية، والتحديات الصحية الرئيسية، مثل مدى الثقة في النصائح الطبية التي يتلقونها من أفراد الطاقم الطبي، من أطباء وممرضات، أو مقدار الفائدة التي يجنيها المجتمع من المجالات العلمية المختلفة.
وعندما تعلق الأمر بالتطعيمات الطبية، ورغم أن 79 في المئة من الناس يؤمنون بأن التطعيمات آمنة، ويتفق 84 في المئة منهم على أنها فعالة، فإن الدراسة سجلت تزايداً في نسبة المشككين والمتخوفين من فعالية وسلامة التطعيمات الطبية. هذا على الرغم من أن التطعيمات تحقق في الوقت الحالي الحماية والوقاية لمليارات البشر ضد أمراض معدية، لطالما حصدت أرواح الملايين عبر مراحل التاريخ المختلفة. بل نجحت التطعيمات الطبية بالفعل في القضاء التام والنهائي على الفيروس المسبب لمرض الجدري، كما شارفت مؤخراً على القضاء على الفيروس المسبب لشلل الأطفال. ويُقدر حالياً أن التطعيمات توفر الحماية والوقاية ضد 25 مرضاً مُعدياً، بدايةً من سنوات الطفولة وحتى المراحل المتقدمة من العمر، مثل الدفتيريا، والحصبة، والسعال الديكي، وشلل الأطفال، والتيتانوس. كما تُقدر منظمة الصحة العالمية، أن برامج التطعيمات الدولية والوطنية، تنقذ حياة من 2 إلى 3 ملايين طفل كل عام.
إلا أن بعض الأمراض الأخرى، مثل الحصبة، عادت للظهور مرة أخرى وبقوة، بسبب تردد البعض في تلقي التطعيمات، نتيجة المخاوف الناتجة عن انتشار المعلومات الخاطئة والكاذبة التي أصبح البعض يروج لها مؤخراً، هذا بالإضافة إلى أنه يوجد أكثر من 22 مليون طفل، لا تتوفر لهم التطعيمات الأساسية أصلاً.
هذا الوضع برمته أصبح يعرف بالقصور في التغطية التطعيمية أو فقر التطعيمات -إن صح التعبير- ويُرد إلى عدة أسباب؛ منها: شح الموارد والتي قد توجه لأولويات صحية أخرى، وسوء إدارة نظام الرعاية الصحية، وضعف نظم المراقبة والمتابعة، والاضطرابات والقلاقل السياسية، والحروب والصراعات المسلحة، وغير ذلك من الأسباب الأخرى.
كما توجه أصابع الاتهام إلى تردد الآباء وشكوكهم في جدوى وسلامة تطعيم أبنائهم، وهو الأمر الذي قد يكون جزء منها بسبب المعلومات الخاطئة التي تروج على وسائل التواصل الاجتماعي، وفقدان الثقة أساساً في نظام الرعاية الصحية، بالإضافة إلى النقص النسبي في عدد العاملين بالقطاع الصحي في العديد من دول ومناطق العالم.
وإذا ما خصصنا بالحديث هنا تراجعَ الثقة في فعالية وأمن وسلامة التطعيمات، فسنجد أن هذا الوضع المؤسف أصبح يتكرر في الكثير من دول العالم، ويثير القلق الشديد لدى أفراد المجتمع الطبي، بما في ذلك داخل دولة الإمارات العربية المتحدة. حتى بعد أن نجحت الجهات والهيئات الصحية في الدولة في عكس الاتجاه العالمي المتدهور، وخفض عدد حالات الإصابة بالحصبة من 826 حالة عام 2015 إلى 173 فقط عام 2017، من خلال حملة تطعيمات هي الأكبر في تاريخ الدولة، تم فيها تطعيم 1.5 مليون طفل. إلا أن مسحاً حديثاً قام به مجموعة من الأطباء بمستشفى توام بالعين، وشمل 400 من الآباء، أظهر تزايد الانطباع السلبي عن التطعيمات داخل الدولة ضمن ما يعرف بمجموعات رافضي التطعيمات، حيث ذكر هذا المسح أن 10 في المئة من الآباء يرفضون تطعيم أبنائهم.
ومما يزيد الطين بلة، أن رفض التطعيم، وبغض النظر عن السبب، لا يشكل خطراً على الشخص المعني وحده فقط، وإنما يضع الآخرين أيضاً تحت سحابة مماثلة من الخطر. فالمعروف أنه إذا ما تلقى عدد كافٍ من الأفراد في المجتمع التطعيم، فستتولد حينها حالة من المناعة، تمنع انتشار المرض والفيروس المسبب له، وهي الحالة المعروفة بمناعة القطيع. والحد الأدنى في حالة مرض الحصبة مثلاً هو 95 في المئة، أي أن 95 في المئة على الأقل من الأفراد يجب أن يتلقوا التطعيم ضد فيروس الحصبة، كي يتمتع المجتمع بمناعة القطيع، ويتوقف ظهور أوبئة محلية من المرض، يقع ضحايا لها أعداد كبيرة من البشر، ويلقى في النهاية جزء لا يستهان به منهم حتفهم بسبب الإصابة.


*كاتب متخصص في القضايا الصحية والعلمية