ما تمر به المنطقة العربية وخاصة منطقة الخليج العربي من أزمات سياسية وعدم استقرار بسبب الأنظمة غير العربية الساعية للهيمنة في المنطقة والمتمثلة في النظامين الإيراني والتركي بالإضافة إلى أزمة قطر الحليف المقرب لهذين النظامين المتأدلجين وغياب الرأي الجمعي الدولي والإقليمي لمواجهة هذه التحديات، وجميعها تطورات لا يمكن مواجهتها فقط بتحالفات سياسية مع الدول الصديقة، بل يتعين التخطيط السليم من خلال دراسات بحثية حتى لا تقع دول المنطقة بأخطاء سياسية كما حدث في السابق. لذلك وفي ظل هذا التشرذم والاختلافات الكبيرة في هذه الأجواء الخطيرة على دول الخليج وخاصة الدول المقاطعة لقطر (السعودية، الإمارات، البحرين) بتكثيف استثمارها في المؤسسات الفكرية البحثية في الداخل والخارج.
من أكبر الإشكاليات التي تواجه البحث العلمي في الدول العربية حجم الإنفاق المتواضع إذا قورنت بالدول المتقدمة. فقد قُدّر إنفاق الولايات المتحدة الأميركية واليابان والصين وماليزيا والاتحاد الأوروبي على البحث والتطوير، بما يقارب 417 مليار دولار، وهو ما يتجاوز ثلاثة أرباع إجمالي الإنفاق العالمي بأسره على البحث العلمي. فالولايات المتحدة وحدها تنفق على البحث العلمي سنويا أكثر من 168 مليار دولار أي نحو 32% من مجمل ما ينفق العالم بأسره. أما في الدول العربية مجتمعةً فلا تتجاوز نسبته 1% من إجمالي ما ينفقه العالم على البحث العلمي.
ومن المفارقات أنه على الرغم من حجم الإنفاق الضئيل على البحث العلمي في داخل الدول العربية إلا أن إنفاق بعض الدول العربية وخاصة الخليجية كبير جداً في المؤسسات الفكرية البحثية بالدول الغربية، يُقدر بعشرات ملايين الدولارات، التي تستهدف السياسات الخارجية والرأي العام لتحسين الصورة. لا أحد ينكر أهمية هذا الاستثمار في المراكز البحثية خاصة المؤثرة، والتي تعتبر من صناع السياسات والكثير منها في واشنطن ولندن، ولكن هذا يجب أن يقابله استثمار في مراكز أبحاث في الداخل من ناحية عدد المراكز، وتأهيل باحثين خليجيين يعملون في تلك المؤسسات الفكرية في الداخل والخارج، لكي تضمن تلك الدول أن هذه الشراكة والاستثمار للمصالح المشتركة طويلة الأمد وليس فائدة مؤقتة تنتهي بمجرد انتهاء المصلحة المادية.
معظم الجامعات العربية بما فيها التي في دول الخليج نجدها مؤسسات تعليمية أكثر منها بحثية. الزيادة في عدد الجامعات زاد عدد التحاق الطلاب وبالتالي زاد عدد المواد المكلف بتدريسها الأستاذ الجامعي، بالإضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية أوتفرغ بحثي يستغرق إجراءات طويلة ومعقدة إما بسبب قلة حجم الإنفاق أو بسبب قلة عدد هيئة التدريس التي تتطلب من الأستاذ الجامعي أن يبذل مزيداً من الوقت في التدريس على حساب البحث العلمي. وأحد أسباب قلة هيئة التدريس في الجامعات هي الظروف المحيطة بالأستاذ الجامعي خاصة بالنسبة للرواتب والبدلات غير المغرية إذا قورنت بالمجالات الأخرى.
لقد أدرك بعض المسؤولين والباحثين خطورة معوقات البحث العلمي وتأثيره على التنمية والتطوير في الدول العربية. فمثلاً في الإمارات أدرك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أهمية البحث العلمي وأولويته في استراتيجية التنمية الوطنية، وعلى هذا الأساس تم إطلاق «الاستراتيجية الوطنية للابتكار» عام 2014 التي تهدف إلى زيادة تمويل البحث العلمي إلى ثلاثة أضعاف ماهو عليه الآن. وقد قدم سعادة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، دراسة وضح فيها أهمية تحديد أوليات البحث العلمي لتكون متوافقة مع حاجات التنمية في الدولة وقضاياها الإقليمية والعالمية.
العلاقات الاستراتيجية مع الدول الصديقة مهمة جداً في مواجهة التحديات والأزمات لكنها لا تكفي لوحدها. فالوضع الحالي قد تعقد عن السابق بسبب غياب الاتفاق الجمعي على المستوى الإقليمي والدولي في المواضيع الجوهرية التي تخص الأمن القومي للمنطقة، وهذا يستوجب تكثيف الاستثمار في المؤسسات الفكرية البحثية في الداخل والخارج التي تشارك في صناعة السياسات واتخاذ القرار، وأيضاً يتحتم تأهيل باحثين خليجيين مؤهلين علمياً ومصدر ثقة.
*باحثة سعودية في الإعلام السياسي