بعد أن تجاوزنا منتصف عام التسامح، في هذا المقال نلقي الضوء على إحدى الصفحات الناصعة في تاريخ العالم الإسلامي من التسامح، صفحة تقدم برهاناً على اندماج شهده المجتمع الإسلامي بكافة فئاته بصرف النظر عن المعتقدات والديانات والعرقيات التي كانت سائدة فيه. وشهدت هذه الفترات ظهور قامات إسلامية سامقة في شتى المجالات والعلوم. ومن بين هؤلاء العلماء والمفكرين الأفذاذ الذين ظهروا في هذه الفترة أبو النصر محمد الفارابي، والذي وُلد عام 870 ميلادية في مدينة فاراب بإقليم تركستان (كازاخستان حالياً). وعُرف عن هذا العالم الجليل شغفه بعلوم كثيرة ومن بينها الفلسفة والمنطق.
الفارابي قرأ كتب الفلسفة لأرسطو وأفلاطون ولم يفهم منها شيئاً، ثم كرر ذلك مرات عديدة حتى أنه سجل على الكتب التي بحوزته، عبارة يقول فيها: «قرأتها أكثر من أربعين مرة، ومازلت أحتاج إلى قراءتها». سافر الفارابي إلى بغداد- عاصمة الخلافة الإسلامية- ليتعمق في علم الفلسفة والمنطق، وكانت بغداد آنذاك تنافس قرطبة في إثراء الحياة الثقافية والعلمية. وكانت بغداد منارة للعلم والمعرفة، وقِبلة للكثير من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وأخذت المعارف تزدهر معتمدةً على الحوار بين العقائد السماوية الثلاث. مكث الفارابي سنوات طوال في بغداد يتعلم ويُعلِّم، وكان من أهم أساتذته المسيحيين: أبو بشر متّى بن يونس في بغداد، ويوحنا بن حيلان في حرّان، وإبراهيم المروزي من مدينة مرو في تركمانستان..
تعلم الفارابي علم المنطق عند الحكيم أبو بشر متّى بن يونس -وعُرِّف عن الأخير تمكنه من لغات عدة وترجمته للنصوص القديمة من اللغة اللاتينية إلى اللغة العربية. تتلمذ أبو البشر متّى على يد أستاذه المسيحي إبراهيم المروزي من مرو. وكان الفارابي أكبر تلاميذ أبو بشر، وكان أبو بشر يشير إلى فضل أستاذه المروزي عليه أمام تلاميذه. ولم يكتف الفارابي بتعلم علم المنطق بل أراد التعمق في قواعد النحو والصرف، فأخذه أستاذه إلى أبي بكر السراج ليتقن اللغة العربية، وتعلم الفارابي قواعد اللغة في بضعة شهور. ويقال إن الفارابي تفوق على أستاذه أبي بكر السراج في قواعد الصرف والنحو وعلى الحكيم أبي بشر في علم المنطق. ثم شد الفارابي الرحال إلى مدينة حرّان ليتعمق في علم الفلسفة على يد طبيب يدعى «يوحنا بن حيلان»· ووصف الفارابي أستاذه يوحنا بأنه تمكن من جمع كل التقاليد المنقولة من تراث أرسطو. وتشكلت بذور المعرفة الأساسية للفارابي في الفلسفة والمنطق على يد أساتذة مختلفي العقيدة والمعتقد، وهؤلاء ساهموا في تكوين أعظم فيلسوف في التاريخ الإسلامي
ولا تفوتنا الإشارة إلى أنه تتلمذ على يد الفارابي في مرحلة لاحقة عالم مسيحي يدعى أبو زكريا يحيى بن عدي والذي ساهم في ترجمة كتب أرسطو. وتشير المصادر التاريخية بأن بعض العلماء المسلمين أمثال ابن سينا والرازي تتلمذوا أيضاً على أيادي علماء مسيحيين. ويمكن القول بأن بعض العلماء المسيحيين ساهموا في تشكيل الحضارة الإسلامية.
الفارابي هو مؤسس الفلسفة العربية، ولُقِّبَ بفيلسوف العرب. حيث وضع فلسفته في إطار يتلاءم مع البيئة الإسلامية، وله مؤلفات كثيرة في علم المنطق والفلسفة وأشهرها (آراء المدينة الفاضلة). و«الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس» في محاولة ليوفق فيه بين آراء هذين العالمين وبين عقائد الدين الإسلامي. وُضِعَت مؤلفاته باسم «التعليم الثاني» على اعتبار أن التعليم الأول قام به أرسطو. وعندما سئل: «من أعلم أنت أم أرسطو؟» قال: «لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه». تأثر بالفارابي الكثير من الفلاسفة الذين أتوا بعده ومنهم ابن سينا، ويعقوب ابن إسحاق الكندي، وابن طفيل، ابن رشد...الخ.
قُوبل فكره بالنقد والهجوم من قبل رجال الدين المتشددين، لأنه كان يحث الآخر على التأمل والبحث فيما وراء الأشياء ومعرفة حقائقها، وهذا يتعارض مع فكر رجال الدين الذي يقبل بالمسلمات. فرأى الفارابي في منهجهم شللاً للعقل البشري عن الحركة، وربما جعله تابعاً للآخر وتعطيل نعمة العقل التي ميز الله بها البشر عن سائر المخلوقات. هذا التعارض أجبر الفارابي على الرحيل من بغداد إلى دمشق.