في حين تتربع بعض مراكز البحوث والدراسات، على منصة الريادة العالمية، منتجةً أبرز المشاريع الاستراتيجية الفاعلة في صناعة القرار، تنحصر أخرى في ميدان المزاودة المصلحية، والخدمة المدفوعة، متحولةً أشبه ما تكون إلى «دكّان» محدد الموارد والسلع، نازحةً عن الهدف الأسمى الذي وجدت لخدمته كأداة لقياس النهوض والتطور.
ومما جمع وجود مراكز البحوث والدراسات من تناقضات في هذا السياق، أن كثرتها أو العكس في الوقت ذاته سبب رئيس تصنف به ازدهار الأمم أو تأخرها. ففي حين يعتبر قياس «معدل التخلف» لدولة ما عن الركب الحضاري، والتطور العالمي، بقلة عدد مراكزها البحثية، إلا أن البنان يشير لوجوده ذاته في تفاقم المشكلة، بل وخلق أزمات تعد أكبر خطراً من الموجودة، ذلك طالما اقترن وجودها بالحيد عن الأهداف التي وضعت لها، ساعية خلف زيادة أرباحها المبنية على المصالح، وعاملاً أول للمزاودة على فكر المجتمعات مقابل المال، إذ انعدمت القيمة والمهنية من العديد من منابر المعرفة البحثية المختصة بالدراسات، حين آثرت أن تصبح «دكان» صناعة محتوى ملائم للجهة الممولة.
وهذا لا يعني محدودية الأفق في العقل العربي أو رجعيته، بل على العكس تماماً، نجد من احترم ما للمراكز البحثية من مكانة تشخيصية للواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي، وصانعة قرار متزن من بذوره الأولى، ومشارك واع للسياسيات الخارجية العالمية، فعلى الصعيد العربي حصل«مركز الدراسات والأبحاث»، بالمغرب، على المركز الثالث، بينما حل مركز «تريندرز» للبحوث والاستشارات في الإمارات العربية المتحدة، على الترتيب العاشر، ومُنح «معهد الغد»، السوداني الترتيب الثامن عشر في «تقرير مؤشر مراكز البحوث العالمي لعام 2016.»أما على الصعيد العالمي، هناك ما يزيد على خمسة آلاف باحث ومتخصص عربي، يتوزعون على أبرز المراكز البحثية الأميركية، الذي أسس أولها باحث عربي وهو العراقي مجيد خدوري، الذي عني بشؤون الشرق الأوسط، أضف إلى ذلك كبار العقول العربية، أمثال الدكتور اللبناني حسن منيمنة، ومؤسس «مركز الدراسات العربية المعاصرة» في جامعة جورج تاون المفكر والأكاديمي الراحل الفلسطيني هشام شرابي، وغيرهم كثر من النجوم العربية الحائزة مكانتها بحق. مما يجعلنا نقف احتجاجاً على الغبن الذي توضع به مراكزنا البحثية قسراً بغير محلها، وتعميماً جائراً تسببت به «دكاكين» البحوث والدراسات «المزورة». وللمتمعن في سبر التاريخ والحضارة العربية حصة الأسد، من إدراك ما أعني، فمن المعيب بل والجائر أن يكون الفرق في وصف الشعوب العربية والغربية حرفاً واحداً، فبين ال «brand»، و«rand» تضيع حقوق، وتبنى شعوب!
وفي هذا الصدد برزت التجربة الإماراتية، في تجذير أسس الدراسات والبحوث كمنصة بل وإحدى صروح الدفع بمؤسسات الدولة نحو الأمام، من خلال الالتزام بالرصانة العلمية والتنوع في آن واحد، فعلى سبيل المثال أثبت «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية»، منذ تأسيسه -1994- وحتى الآن، قدرته وتفوقه كمقصد أساسي للباحثين والمفكرين العرب والأجانب، ووجهة مهمة للاستزادة بآليات العمل المتقنة، فضلاً عن إصداراته التي غدت مصدراً أساسياً للمعرفة في المجالات كافة، وأعداداً لا بأس بها من المراجع العلمية في المكتبات الجامعية على مستوى العالم، فضلاً عما تحصده مؤتمراته من اهتمام المؤسسات البحثية والسياسية والإعلامية. من خلال ما تقدمه من طرح ثري متنوع وحيوي، مرتكز على حضور كوكبة مميزة الخبراء والمسؤولين الأكفاء.
ولنا أن ندرك الأهمية القصوى المرتكزة على العماد العلمي والبحثي في المجتمعات، وما لها من دور ضليع، في دفع العقول وتحفيزها على الإبداع، بدلاً من إخمادها ومحاصرتها بالاستهلاك، إذا ما أمعنّا في مصدرات الشعوب التي تحترم عقول أبناء مجتمعاتها، فحين يكون كبار الباحثين في راند«هنري هاب آرنولد» جنرال في سلاح الجو الأميركي، والاقتصادي «كنث آرو»وعالم الرياضيات «روبرت أومان»، حائز على جائزة نوبل، و«صامويل كوهين» مخترع القنبلة النيوترونية عام 1958، و«أندرو مارشال» استراتيجياً في الشؤون العسكرية، وآلن نيوول «مختصاً في الذكاء الصناعي»، يدلنا ذلك كله على العناية المعطاة للمجالات كافةً، والجهود المبذولة في وصولها للرفعة التي تنعكس بالضرورة على المجتمع، ومن الجدير ذكره أن 32 حاصلاً على جائزة نوبل، خصوصاً في الاقتصاد والفيزياء، كان لهم علاقة أو ارتباط على نحو ما بمؤسسة راند خلال تاريخهم المهني.
وفي العالم الذي تكاد تبان حدوده على الخريطة، وتنعدم على وجه الحقيقة، يركب من يشاء وقت ما يشاء موج الفسحة الرقمية، متفاخراً بعضلاته التي لا يزيدها رونقاً إلا عدد المتابعين، والمعجبين، والمعلقين! لا يختلط على اثنين ضرورة إيجاد ميثاق قومي عربي جامع لرؤية ناضجة، ميثاق مبين لمعالم السبيل العلمي والبحثي المنهجي السليم، الدافع بالنهضة العربية، وبخاصة أنها «حاجة ملحة»، في زمن الفوضى السياسية «الخلاقة»، والاضطرابات الفكرية المتحولة لـ «صدامات». وحاداً من تكاثر «دكاكين البحوث»، فارغة المحتوى، هشة التأطير، منتشرةً كالخلايا السرطانية المتوشحة برداء الحقيقة، وماهي إلا زيف خادم لإعاثة الفساد في المجتمعات وابتزاز مؤسساتها وأفرادها بدلاً من بنائها!
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة