في عام 1930، تنبأ عالم الاقتصاد «جون ماينارد كينز» بأنه بحلول عام 2030، سنعمل 15 ساعة فقط في الأسبوع، حيث إن النمو الاقتصادي سيرفع مستوى معيشتنا بين 4 و8 أضعاف، ويمكن للمواطن العادي أن يتوقف عن العمل بجد.
نحن جميعاً متأكدون أن وقت الفراغ الذي يتحدث عنه «كينز» لم يأت بعد. ليس فقط لأن مستوى معيشتنا لم يرتفع نتيجة للنمو الاقتصادي (في الواقع فإن تقديره كان صحيحاًَ إلى حد كبير)، لكن لأننا، حتى بعد التقدم السريع الذي غير نمط حياتنا على مدى قرن من الزمان تقريباً، واصلنا العمل من دون انقطاع ولا تراجع لعدد ساعات العمل. فالولايات المتحدة مهووسة بضمان استمرار النمو الاقتصادي. وأي أمة حديثة ليست كذلك؟
إنها نيوزيلندا، كما يتبين الآن.
في الشهر الماضي، أصدرت الدولة الجزرية أول «موازنة رفاه» خاصة بها. وعلى العكس من معظم خطط الإنفاق الوطني، فإن الهدف من مخصصات العام القادم ليس تعزيز الناتج المحلي الإجمالي، بل زيادة سعادة المواطنين النيوزيلنديين. ووفقاً لخطة الميزانية الجديدة، فإنه خلال السنة المالية المقبلة، ينبغي توجيه كل الإنفاق غير الأساسي في نيوزيلندا نحو تحقيق خمسة أهداف رئيسية للرفاه: تحسين الصحة العقلية، والحد من فقر الأطفال، ودعم السكان الأصليين، والانتقال إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات، وتعميق ازدهار العصر الرقمي. ولقياس مدى النجاح في تحقيق هذه الأهداف، ستقوم الحكومة بتتبع المؤشرات غير التقليدية مثل جودة البيئية المتصورة والشعور بالانتماء.
ويبقى أن نرى مدى فعالية هذه الموازنة الجديدة في معالجة القضايا التي تخاطبها، أو ما إذا كانت المبادرة ستصمد طوال فترة ولاية رئيسة الوزراء التقدمية «جاسيندا أرديرن». لكنها على أية حال تعد خطوة كبيرة، باعتبارها بياناً للقيم وموجِّهاً للحكومات المتقدمة الأخرى.
لقد تم تقديم الناتج المحلي الإجمالي كمقياس للناتج الاقتصادي الكلي للبلاد، إلى الكونجرس في عام 1937 خلال فترة الكساد الكبير. وكان المقصود منه أن يكون مقياساً للإنتاج، وليس مقياساً مجرداً للنجاح الوطني. وكما كتب «سايمون كوزنتيس»، العالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، عام 1943، فإن «مقياس رفاهية البلاد نادراً ما يمكن استنتاجه من خلال قياس الدخل القومي». ومع ذلك، بعد تشكيل المؤسسات المالية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الناتج المحلي الإجمالي هو الأداة القياسية لتقييم اقتصاد البلاد.
واليوم، ينظر إلى النمو باعتباره اختصاراً للتقدم. لكن على الرغم من أن الاقتصاد الأميركي قد يكون قوياً، فإن وجود المزيد من الأموال لا يعني بالضرورة مزيداً من السعادة، على الأقل بعد نقطة معينة. لقد كان الاقتصاد في حالة من النجاح المستمر لسنوات، لكن هذا لم يحل دون حالات الوفاة نتيجة اليأس أو التشرد أو الشعور بالضياع. إن اقتصاد نيوزيلندا يتمتع بالصحة بما في الكفاية، لكن البلاد لا تزال تعاني من أزمة انتحار.
وبالطبع، يعتبر النمو مقياساً كلياً، حيث ترتفع بعض قطاعات الاقتصاد بينما تعاني قطاعات أخرى من الركود أو حتى السقوط. وهناك فروق بسيطة في الناتج المحلي الإجمالي كمقياس يتم تجاهلها في كثير من الأحيان. وإحدى النظريات عن سبب عدم زيادة سعادتنا بالتوازي مع اقتصادنا، هي أن مزايا كل النمو الذي حققناه لن تذهب إلى هؤلاء الذين يحتاجون إليها، إذ أن عدم المساواة المتزايد يحول دون ذلك. غير أن نماذجنا الاقتصادية مبنيةٌ على توقعات من التوسع المستمر.
إن أرقام الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن تقود التضخم، وأسعار الفائدة والديون. وسيكون من الصعب حل النظام الذي قمنا من خلاله بقياس الجزء الأعظم من الثمانين عاماً الماضية. بيد أن هذا ليس حقاً هدف نيوزيلندا. إن موازنتها الجديدة هي بيان للأولويات أكثر من أي شيء آخر. فما هو أكثر شيء يهمها؟ وما الشيء الذي ينبغي أن يهمنا؟
يحدد النيوزلنديون رفاههم بالصحة العقلية ودعم الأسر ومجتمعات السكان الأصليين. ومن أكثر الاستثمارات التي يتم التحدث عنها تخصيص 200 مليون دولار للناجين من العنف الأسري، وهو الأكبر من نوعه، علاوة على تخصيص مبلغ هائل لدولة يبلغ عدد سكانها نفس عدد سكان ولاية ألاباما.
يمكننا أن نفعل شيئاً مماثلا إذا ما أردنا ذلك. فسنوات من النمو تعني أن الولايات المتحدة لا تعاني نقصاً في الأموال، والسؤال ببساطة هو: أين تذهب هذه الأموال؟ قد يعني التركيز على الرفاه هنا تقليص البرامج الأقل إسهاماً من الناحية الاجتماعية، وإعادة توجيه إنفاقنا نحو مشروعات تعزز الاستقرار الاجتماعي، سواء من خلال دعم الأسرة أو المصالحة العرقية أو الحفاظ على البيئة.
«إن النمو وحده لا يؤدي إلى بلد عظيم»، هكذا كتبت رئيسة الوزراء النيوزلندية، أرديرن، في مقدمة مشروع موازنتها لعام 2019. «لذا، فقد حان الوقت للتركيز على تلك الأشياء التي تؤدي إلى بلد عظيم». فما الذي يمكننا تغييره إذا فعلنا نفس الشيء؟
*كاتبة أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»