كما أشار شارلوك هولمز «عندما تكون قد قضيت على المستحيل، فإن كل ما تبقى، مهما كان غير محتمل، يجب أن يكون هو الحقيقة». والمستحيل، في هذه الحالة، كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما يعرف بـ«بريكست». لقد أدارت «تيريزا ماي»، التي أعلنت استقالتها، يوم الجمعة، الكأس المسمومة الخاصة بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بكل وسيلة في محاولة لجعلها مستساغة، لكنها لم تستطع.
وكما هو معروف، فقد قالت إن «بريكست يعني بريكست»، دون أن تجد الشجاعة أو الثقة لكي تستطرد. لقد كانت هذه مشكلة، نظراً لأن المسألة المطروحة كانت واحدة من أخطر قرارات بلادها في وقت السلم. وكان العناد، وليس مستقبل بريطانيا، هو الذي يقودها. لقد صوتت بريطانيا، قبل ثلاث سنوات تقريباً، وكانت هي الشخص الذي سينفذ الاتفاق.
لا يهم أن الدليل على التأثير السلبي لبريكست كان يتراكم يومياً – وقد تمثل في تباطؤ النمو، وانخفاض الاستثمار، وفقدان الوظائف المصرفية، وإغلاق المصانع – أو أن المملكة المتحدة قد تتفكك، أو أن البرلمان رفض ثلاث مرات الاتفاق الذي اقترحته «ماي»، أو أن الديمقراطيات معروفة بتغيير موقفها عند ارتكاب أخطاء: إنها تثابر حتى يتعين عليها التسليم بأن الاستقالة هي «في مصلحة البلاد».
فماذا تبقى من صياغة هولمز؟ ما هي الحقيقة؟ سيبدأ التنافس على القيادة في حزب المحافظين، والفائز هو الذي سيصبح رئيساً للوزراء، ويتولى مهمة حل كارثة بريكست. إن خليفتها الأكثر ترجيحاً، نظراً لمدى المشاعر المسعورة المؤيدة لبريكست بين المحافظين، هو بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق، المتقلب الذي يشبّه البعض شخصيته بشخصية دونالد ترامب.
«إنه يمتلك ما يتطلبه الأمر»، بحسب ما قال ترامب، الذي قام بزيارة لبريطانيا في في الآونة الأخيرة، عن جونسون.
ومع وجود جونسون، كقائد، ستزداد الفرص لخروج بريطانيا الصعب، من المقرر أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر، حسب الموعد النهائي الجديد دون أي ترتيب يحكم علاقتها المستقبلية مع جيرانها وشركائها السابقين. لكن جونسون لديه العديد من الأعداء، وهذا السيناريو الخاص بسلاسل التوريد مقطوع، والشاحنات تتكدس في دوفر وكاليه، ويلقى المقيمون البريطانيون في أوروبا حالة من النسيان، والفوضى الإدارية الهائلة على كل مستوى من مستويات التمويل والتجارة والصناعة والشركات الصغيرة.. مما قد يقود بعض المحافظين إلى الانشقاق وتجديد الجمود البرلماني أو إسقاط حكومة جونسون.
هناك مرشحون آخرون، مثل وزير الداخلية «ساجد جافيد»، أو وزير الخارجية «جيرمي هانت»، اللذين هما أكثر التزاماً بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي كأساس لخروج بريطاني منظم. لكن حتى مع إشارة استطلاعات الرأي إلى أن العديد من البريطانيين قد أعادوا النظر في تصويتهم في عام 2016، وأن إجراء استفتاء ثانٍ ستقلب النتيجة، فإن حزب المحافظين سيكون مدفوعاً بلا هوادة، من قبل الفصيل اليميني القومي المتطرف، الذي يجسده جونسون بوضوح. لقد كان يريد أن يكون رئيساً للوزراء منذ فترة طويلة، وسيفعل أي شيء للوصول إلى داونينج ستريت.
ومع ذلك، قد يكون توقيت جونسون سيئاً وغير ملائم، إذ أن انتخابات البرلمان الأوروبي، التي انتهت مؤخراً، قد حققت تقدماً مفاجئاً لحزب بريكست اليميني بزعامة «نايجل فاراج» (مدفوعاً بالأشخاص الغاضبين من انتهاء مهلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس) وبهزيمة للحزبين الرئيسيين، حزب المحافظين وحزب العمال الضعيف بزعامة جيرمي كوربين.
كما أن تيار الوسط هو الآن أضعف من أي وقت مضى في بريطانيا. والتركيبة السياسية للبلاد في حالة تغير مستمر. لقد أصبح بقاء البلاد نفسه محل تساؤل، حيث مزقتها التوترات الداخلية في إيرلندا حول الاتحاد الأوروبي ورغبة اسكتلندا القوية في البقاء في الاتحاد. ولا يزال سمّ بريكست يسري لسبب بسيط هو أنه لا معنى له.
ويمكن لجونسون، إذا تم اختياره، أن يحاول الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة لتعزيز موقفه، من أجل خروج بريطانيا الصعب من الاتحاد الأوروبي، لكن حزب فاراج سيدمر تصويت المحافظين، وعلى حد تعبير «هوجو ديكسون»، نائب رئيس الحركة الشعبية، من أجل استفتاء ثانٍ، «إذا آثر جونسون إبرام اتفاق مع فاراج، فإن هذا سيسبب مزيداً من الفوضى».
هناك شيء واحد مؤكد: إذا كانت هناك انتخابات عامة، مع وجود جونسون، زعيماً لحزب المحافظين، وكوربين الرجل الذي فتح الأبواب لمعاداة السامية في حزبه، كبديل رئيسي، فإن الكثير من العقلاء في بريطانيا سيجدون أنفسهم عاجزين عن التصويت لأي منهما.
ومهما يكن، فمن غير المرجح أن تصوت دولة حكيمة، من أجل البتر الذاتي من عضوية استمرت 46 عاماً في اتحاد، يضم قرابة نصف مليار أوروبي جلب لها الازدهار والنفوذ، فقد حدث هذا. وقد أثبتت العواقب أنه من المستحيل إدارتها. فلا توجد أغلبية برلمانية لأي شكل من أشكال بريكست. فلا يمكن إصلاح الغباء، على حد تعبير زميلي «توماس فريدمان». إن استقالة ماي تغير المشهد لكنها لا تغير انجراف بريطانيا في هذا المأزق، الذي لا يحله سوى إجراء استفتاء ثانٍ.

*كاتب بريطاني -أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»