أعطت مدينة بورتسمث البريطانية، منذ أيام، إشارة الانطلاق للاحتفالات المخلدة للذكرى الخامسة والسبعين لأكبر إنزال بحري في التاريخ في منطقة النورماندي الفرنسية لتحرير أوروبا من ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. وشكلت بورتسمث محطة الانطلاق الأساسية لأكبر أسطول هجوم في التاريخ، ضم 156 ألف أميركي وبريطاني وكندي وآخرين من دول الحلفاء، أبحروا إلى الشواطئ الشمالية لفرنسا. وحدث كل هذا بعد اجتماع كل من الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، من أجل التصدي لألمانيا النازية وحلفائها من دول المحور وتنسيق العمليات القتالية ضدهم، وأدت معركة النورماندي في 6 يونيو إلى تحرير أوروبا وساعدت في إنهاء الحرب العالمية الثانية. وشاركت في الاحتفال الملكة إليزابيث الثانية والرئيسان الفرنسي والأميركي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة تيريزا ماي.. إلخ.
أما روسيا فاحتفلت بانتهاء الحرب العالمية الثانية وانهزام النازية في عقر دارها ولم تُستدع إلى هذه الاحتفاليات، سواء المنظمة في بريطانيا أو في فرنسا. واحتفلت في مراسم باتت تكتسب أهمية متزايدة خلال عهد بوتين، والذي تعهد في كلمة ألقاها أمام آلاف الجنود وقدامى المحاربين بضمان استمرار القوة العسكرية لبلاده. وحضر الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف (88 عاماً) والنجم السينمائي ستيفن سيغال (مؤيد لبوتين) الاحتفالات في الساحة الحمراء مع لفيف من الشخصيات الروسية البارزة. وأكد بوتين أنه لا يضر بلاده أن لا تستدعى للاحتفاليات في بريطانيا، متمنياً تحسن العلاقات مع بريطانيا بعد ذهاب حكومة ماي.
والرئيس الروسي يعي جيداً أن هذا التهميش المتتالي من قبل أوروبا لروسيا والعقوبات الأميركية بحق الشركات الصينية، وعلى رأسها شركة هواوي، يشكل برداً وسلاماً على علاقتها بالصين، إذ تضع البلدان أمام استحقاق «الرد المشترك» ضد «تهديدات معاصرة» أطلقتها تحركات الرئيس الأميركي دونالد ترامب و«استراتيجية» العقوبات والحروب التجارية مع الطرفين.
وفيما تجتمع الدول الغربية في بريطانيا، تحتفي روسيا بالرئيس الصيني شي جينبينغ لدى مشاركته في أكبر منتدى روسي للأعمال يعتزم البلدان اغتنامه لاستعراض علاقاتهما الاقتصادية في مواجهة الولايات المتحدة، وسط الحرب التجارية المتصاعدة بين بكين وواشنطن. ويرى «كريس ويفر»، مؤسس شركة الاستشارات «ماكرو أدفايزوري»، أن «المنتدى في 2019 يظهر بوضوح إلى أي مدى بات العالم ثنائي القطبية. ففي الأسبوع ذاته، يتناول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشاي مع الملكة إليزابيث الثانية في لندن، فيما يستقبل الرئيس بوتين الرئيس شي في سان بطرسبورغ».
وقد باتت الصين خلال العامين الأخيرين أكبر شركاء روسيا التجاريين، محتلةً بذلك مكان الاتحاد الأوروبي. إذ استحوذت خلال العام الماضي على 15% من تجارة روسيا الخارجية. وارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين في 2017 بنسبة 31.5% مقارنة بعام 2016. وبلغ 87.4 مليار دولار، منها 39 مليار دولار صادرات روسية إلى الصين، مقابل واردات بقيمة 48.4 مليار دولار.
ويتوقع البلدان أن يتجاوز حجم التبادل التجاري عتبة الـ100 مليار، وفقاً لخطة طموح تسعى إلى دفع التبادل بنسبة 150% خلال السنوات العشر المقبلة. فيما أعرب بوتين عن ارتياحه لأن حجم التجارة الثنائية بين الدولتين يرتفع بنسبة 30% سنوياً. ويرى المتتبعون الاستراتيجيون أن هناك جهوداً روسية صينية لتقزيم حجم الدولار الأميركي في المعاملات التجارية.. ففي السنة الماضية قال بوتين لشي، وهو يهديه آنية مصنوعةً يدوياً وتحتوي على العسل الطبيعي، إن عليه أن يدفع ثمنها، فأجابه الزعيم الصيني إنه لا يحمل معه في تلك اللحظة روبلات روسية ليدفع ثمن الآنية، فأجابه الرئيس الروسي سيكون عليك إذن الدفع بالعملة الصينية.
لقد حمل مزاح الرئيسين إشارة مباشرة إلى النقاشات الجدية الجارية بين البلدين للتحول تدريجياً نحو التعامل بالعملات الوطنية. ويرى خبراء أن الهدف الأساسي هو الحد من تأثير التعامل بالدولار الأميركي على التبادل الاقتصادي للبلدين. وتعني هذه الخطة في الأخير بداية الحد من هيمنة الدولار.