في نقاشٍ مع أحد القضاة حول قضية تشهير صحفية، قال إن تكوين المحكمةِ عقيدتَها في قضية نشر أكثر تعقيداً من تكوين عقيدتها في قضية قتل، أي أن المحكمةَ تقلّب الرأي في جريمة النشر لتصل إلى حكم الإدانة أو البراءة أكثر ممّا تفعل في جريمة القتل.
والمقصود بقضايا النشر هو قضايا السبّ والقذف التي تقع عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو المرئية. ولا تختلف هذه القضايا عن مثيلاتها التي تقع بغير طرق النشر، كما في السبّ وجهاً لوجه، سوى أنّ النشر ظرف مشدد للجريمة.
ومن هنا نعرّج على الحوارات المتوترة في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تنتج عنها في بعض الأحيان عبارات وكلمات تبقى محل جدل فيما إذا كانت تشكّل إساءةً مجرَّمةً أم هي مجرد آراء حادة وانتقادات في حدود القانون. وبطبيعة الحال، ثمة عبارات سب وقذف صريحة لا تحتاج إلى إعمال الفكر والنظر فيها، وهي خارج التناول في هذه السطور.
أما لِمَ لا يساور القاضي أدنى شكّ وهو يكوّن قناعته في الحكم في جرم كالقتل في حين أنه يقلّب وجه الرأي في جرائم السبّ والقذف، فلأن أفعالاً كالقتل والاغتصاب والتزوير منضبطة ومحددة، ونتائجها الإجرامية ثابتة ومؤكدة، والأدلة فيها متعددة تسند بعضها بعضاً، فمتى أُزهقت روحٌ فنحن بصدد جريمة قتل، ومتى حدثت مواقعة جنسية بالإكراه فنحن أمام جريمة اغتصاب، ومتى حُرّفت الحقيقة في محرَّر فنحن بإزاء جريمة تزوير.
والأمر ليس هكذا مع السبّ والقذف، فضابط السبّ أن يخدش الجاني شرفَ أو اعتبار الضحية، ويلصق به عيب يحطّ من قدره أو يخدش سمعته، وضابط القذف أن يسند إليه واقعة من شأنها أن تجعله محلاً للعقاب أو للازدراء والاحتقار. وهكذا نجد أننا أمام مفاهيم فضفاضة، كالشرف والعيب والاعتبار والسمعة، وما يخدشها ويشينها ويزري بها.
وهنا يستخدم القاضي سلطته التقديرية في تحديد ما إذا كانت الواقعةُ تشكّل جريمةَ سبّ أو قذف، على عكس وقائع القتل والتزوير التي لا حاجة فيها إلى التقدير لوضوح الأفعال المكوّنة لها، فيستند في السبّ والقذف إلى النص القانوني وشروحه وتطبيقاته القضائية، ويتلمّس فهم معاني الألفاظ والعبارات ومراميها بالرجوع إلى عرف الجهة التي استُعمل فيها والعرف السائد في مجتمع المجني عليه، ثم يرى إن كان الغرض مما قيل هو النقد بحسن نيّة وللصالح العام، أم أنه انطوى على سوء نية وغرض شخصي، ويكوّن من كل هذا عقيدتَه في الحكم بالإدانة أو البراءة.
وإذا كان القاضي، وهو الخبير القانوني، يحتاج إلى كل هذا ليطمئن وجدانُه إلى رأي في واقعة سبّ أو قذف، فكيف نطمئن كأفراد عاديين إلى أننا لا نتجاوز حدود القانون في حواراتنا، اطمئناناً إلى أننا لم ننزلق إلى السباب والشتائم، والحال أنّ التجريم لا يقتصر على العبارات التي ننزّه ألسنتنا عنها، بل قد نقع في المحظور أثناء الحوارات الصاخبة والمشدودة، ليكون الآمن للمرء أن يحافظ على آداب الحوار، حيث لا يعذَر أحدٌ بجهل القانون، وحدود القانون في المفاهيم الفضفاضة أكبر مما قد نتصورها.