أصبحت الحاجة إلى التنوير ومعالجة ملف التطرف مسؤولية جماعية، تشترك فيها المؤسسات الرسمية والنخب المؤثرة وأجهزة الإعلام ومؤسسات التعليم في المنطقة العربية. وهناك بالفعل مؤشرات على توجه رسمي لحماية الأجيال القادمة من آفة الإرهاب، من خلال تجديد الخطاب الديني وإعادة صياغة سياسات التعليم، ومنح دور أساسي لوسائل الإعلام في هذا الاتجاه.
ومن الأمثلة على تزايد التوعية وتسليط الضوء على جذور التطرف، أن الموسم الرمضاني الفائت كان حافلاً بتجارب تنويرية في الدراما، عكست توجهاً نحو الاقتراب من أحداث شائكة، مثل حادثة احتلال الحرم من قبل جهيمان العتيبي وجماعته، وهذا الموضوع تمت معالجته درامياً في مسلسل «العاصوف»، الذي تطرق أيضاً إلى جذور وبدايات تشكل التطرف الديني في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات.
تلك الأحداث المفصلية في تاريخ تشّكل الإرهاب، تكشف لنا أن المنطقة دخلت آنذاك في حالة استسلام وغيبوبة ثقافية، وسمحت للتشدد بالتوغل في العقول وغزو مناهج التعليم ومنابر الخطابة الدينية. لكن المجتمعات لم تلمس خطر التطرف إلا بعد أن زاد التوحش وأصبحت خلايا الإرهاب الأسود تسيء للإسلام ولشعوب المنطقة، فشاهدنا ردود الفعل الدولية والإقليمية، التي أجمعت على مواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه وإزالة أسبابه.
لكن لابد من التنويه كذلك إلى أننا عندما نفتح ملف تطور الإرهاب وجذوره، يجب ألا ننسَ أن عملية تغذية التطرف الديني حدثت في ظروف دولية وعالمية أسهمت في توظيف العاطفة الدينية، وعملت في فترة معينة على غض الطرف عن تمدد فكر التشدد، لدرجة أن التشجيع على انتشار أدبيات الجهاد في ثمانينيات القرن الماضي كان يحظى بتأييد ودعم إقليمي وغربي. وكان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان وتمدد الشيوعية آنذاك الخلفية التي تسببت في التساهل مع التطرف، خصوصاً أن الشيوعية حاولت الزحف لاكتساح مساحات أكبر في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.
لذلك اشترك الأميركان بكل ثقلهم في التهيئة اللوجستية لجعل الإسلام أحد أسلحة الغرب لضرب الاتحاد السوفييتي وتقليص نفوذه الأيديولوجي، بعد أن حقق الشيوعيون عقب الحرب العالمية الثانية مكاسب أبعد من آسيا الوسطى، وامتد نفوذهم داخل مجتمعات ودول أميركا الجنوبية والشرق الأوسط، ثم حظيت ثورة الخميني عام 1979 بدعم الشيوعيين، لكن الخميني تنكّر لهم بعد أن استتب له الأمر، وانقلب عليهم ليؤسس دولة الملالي ذات المرجعية الدينية.
إذن هناك من خارج المنطقة مَن شارك في رعاية التشدد، من أجل استخدامه كسلاح عقائدي في مواجهة الشيوعية. ومن الجيد أن نلمس الآن خطوات ثقافية وفكرية جادة لمحاربة الإرهاب، لأن الحلول الأمنية وحدها لا تقضي على التشدد، في ظل تغلغل فكر التطرف وتسريبه في مناهج التعليم وبرامج الإعلام والمنابر الدينية. لذلك فالبداية الصحيحة لنشر التنوير تتطلب التعامل مع وسائل عديدة. وكما يقال، فأن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي. ونرى أن ملامح التنوير في الدراما التليفزيونية تمثل الآن خطوة جيدة. ويجب أن يمتد التنوير ليشمل التعليم، بعد أن كان أحد عوامل تكوين التطرف.
الإشكالية بدأت بتسليم قطاع التعليم للمتطرفين الذين قاموا بصياغة المناهج واختيار شبكات المدرسين بما يلبي ميولهم ويخدم جماعاتهم. فكان التعليم بالنسبة لهم دجاجة تبيض ذهباً، إذ قاموا بالتأثير الممنهج على الطلاب الصغار منذ الطفولة، ونجحوا في زرع فكر التطرف في عقولهم، الأمر الذي يجعل من مهمة التغيير والتنوير بحاجة إلى المزيد من الوقت لإصلاح الخلل العميق والمتجذر، الذي تكون على مدى أجيال نشأ بعض أفرادها على التزمت والتشدد والفهم المتطرف للدين. وإلى جانب دور الإعلام والدراما، بدأنا نلمس جهوداً لنشر فكر التنوير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، رغم صعوبة تقبل البعض للتجديد. فقد نجد داعية يتبنى الفكر المستنير، لكنه يواجه التكفير وعدم تفهم خطابه القائم على التسامح الديني. ولأن التعليم كان في الماضي مدخلاً لنشر التطرف، يجب أن ينطلق التنوير من المدرسة، لتنشئة أجيال سليمة، تتبنى الانفتاح والقبول بالآخر. لكي تتجه الشعوب نحو بناء المستقبل بعيداً عن قيود التطرف.
*كاتب إماراتي