أظهرت نتيجة الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة أن هناك شرخاً عميقاً بدأ يضرب جدار النسيج الأوروبي الموحد، وأكدت المعطيات الآنية على أن قطاعاً كبيراً من الأوروبيين، باتوا يفضلون الجدران العالية، على الجسور الرحبة. أكثر من خمسين مقعداً تحصل عليها التيار اليميني المتطرف في الداخل الأوروبي، اختصمت من جماعات الديمقراطية المسيحية التقليدية، وكذا من أنصار الاشتراكية المقابلة، وقد كانتا هما الكتلتين المهيمنتين على أبعاد الحياة السياسية الأوروبية منذ وقت بعيد.
انتخب الأوروبيون هذه المرة أصواتاً لا تحبذ بقاء الاتحاد الأوروبي، وتميل إلى أزمنة التفكيك عوضاً عن الاندماج، وفي هذا خسارة تاريخية لأوروبا الليبرالية والتنويرية، تلك التي سعت منذ وقت بعيد إلى القفز على أرمنة النازية والفاشية، عطفاً على كافة الأصوات الأحادية المفتقرة إلى التعاطي الإنساني والوجداني الخلاق.
في هذه الأجواء القلقة والمقلقة، والتي لا بد لها من أن تنعكس بدرجة أو بأخرى على العالم العربي، وبردات عكسية تعمق الأصوليات الضارة، ارتفع صوت البابا فرنسيس، الحبر الروماني الأعظم، رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم برمته بالتساؤل: «هل من جدران أخرى بعد جدار برلين؟»
كان جدار برلين عبر القرن الماضي رمزاً سيئاً لبشرية منقسمة على ذاتها، وقد خيل للشموليين والتوتاليتاريين من السوفييت أنه حاجز إسمنتي وأمني سيبقى إلى الأبد، لكن الأصل في الإنسانية التواصل والتعارف، اللقاء والانفتاح لا الانغلاق، وما عدا ذلك لا يبقى في الأرض.
في مقابلة نشرتها الأيام القليلة الماضية صحيفة حاضرة الفاتيكان الرئيسية «المراقب الروماني»، أو «أوسيرفاتوري رومانو»، أضاف البابا قائلاً: «لست أفهم هذا النهج الجديد للدفاع عن الأراضي عن طريق بناء الجدران. لقد عرفنا جداراً واحداً في برلين، والذي جلب لنا كثيراً من الصداع والمعاناة».
مثير هذا البابا الذي له دالة على علوم الأدب والاجتماع والتاريخ، وهو أمر مفهوم بالنسبة إلى راهب ينتمي إلى رهبانية «إخوة يسوع» أو «الجيزويت»، أصحاب العلم والمعرفة، إذ يضيف واضعاً الإنسانية أمام حقيقة مؤلمة: «يبدو أن ما يفعله الإنسان هو ما لا تفعله الحيوانات، لأن الإنسان هو الحيوان (الاجتماعي) الوحيد الذي يقع مرتين في الحفرة نفسها».
والذين لديهم علم من كتاب «بيرغوليو» ذلك الأرجنتيني الفقير، الساكن وراء جدران الفاتيكان، يدركون أن الرجل كان وما يزال رافضاً لفكرة التمترس وراء الجدران حول العالم، وقد تكلم بصوت عالٍ ضد الإجراءات غير الإنسانية التي ذهبت في طريقها بعض الدول الأوروبية إبان أزمة المهاجرين من الشرق الأوسط والعالم العربي خلال فترة ما عرف بـ«الربيع العربي»، والذي أثبتت الأيام زيفه.
رفض فرنسيس أن تقام الجدران في مواجهة المعذبين في الأرض في طبعتهم الجديدة، أولئك الذين ألقت بهم الأقدار في اليم للغرق والضياع، وبالقدر نفسه كان رفض فرنسيس لفكرة الجدار الأميركي الذي سعى في طريقه الرئيس دونالد ترامب، ليفصل بين بلاده وبين المكسيك، في إجراء مقصود منه إبعاد شبح الفقراء والمناضلين من أجل الحياة، عن دعاة الرأسمالية والنيوليبرالية في تنعمهم، وثرائهم، غير مفضلين أن يشاركهم أحد في المركز الأول حول العالم، ذلك المرتكز على قيم الذات والأنانية وتسليع الإنسان.
يندد فرنسيس بحقيقة: «إننا نفعل الأشياء نفسها، نعلي الجدران كما لو كان هذا دفاعاً، في الوقت الذي يكون فيه الدفاع بالأحرى هو الحوار، النمو، القبول، التعليم، الاندماج، أو الحد الصحيح المتمثل بالقول: لم يعد بوسعنا ذلك، كونه حداً إنسانياً»، بينما نقع في أعنف قسوة، حيث يطرح السؤال نفسه: دفاع عن ماذا؟ الإقليم، اقتصاد البلد، أو ماذا؟
لغة فرنسيس عملة غير مقبولة في عالم السياسة الأوروبية اليوم، ناهيك عن الأميركية، تلك التي أرسلت مؤخراً نبيها «ستيف بانون» ليبشر بشعوبية ظلامية في الداخل الأوروبي، شعبوية تحاول أن تبني هيكلية أوروبية لا تختلف كثيراً في الجوهر عما فعله هتلر أو اقترفه موسوليني في أزمنة الكراهية والحقد الإنساني، تلك التي أوقعت نحو سبعين مليون قتيل، واحتاجت إلى عقود من أجل إصلاح وترميم النفوس والعقول قبل البني التحتية في أوروبا.
يؤكد فرنسيس على أن «أنماط التفكير الموصولة بالجدران، لا المرتكنة إلى الجسور، تلقي اليوم بعواقبها على العمل السياسي، بل وتصنع سياسة من هذا النوع، الأمر المحزن للغاية، لا سيما وأن كل من يبني الجدران ينتهي بأن يكون سجين الجدران التي شيدها».
على الناحية الأخرى وفي المقابل، يلقي الفقير فرنسيس بالأمل وعنده: «إن من يبني الجسور يتآخى ويمسك بيد الآخر حتى لو بقي على الجهة الأخرى».
الخلاصة: حين يسود الحوار، يمكن الدفاع عن الأرض، من خلال جسور ثقافية وسياسية، وليس بالضرورة بالجدران العالية.
*كاتب مصري