أثارت السياسة الخارجية للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والقائمة على فكرة «أميركا أولاً»، نقاشاً محتدماً في المجتمع الدولي، إذ يحاجج الكثير من مراقبي السياسة الخارجية بأن سياسات ترامب تقوّض المؤسسات متعددة الأطراف التي تشكل «النظام الدولي الليبرالي». هذا بينما يذهب آخرون إلى أن ترامب إنما يعبّر بشكل صريح فقط عما آمن به الرؤساء الأميركيون السابقون طويلاً، ألا وهو أن الولايات المتحدة تهيمن على النظام الدولي، ولديها القوة لانتهاك بنوده متى شاءت، وقد فعلت ذلك في مرات كثيرة.
لكن ذينك الرأيين لا يعكسان الحقيقة تماماً؛ إذ إن النظام الدولي الليبرالي لم يزدهر بسبب القوة والهيمنة الأميركيتين الماحقتين، وإنما بسبب اتفاق جماعي صيغ عندما قاومت قوى أضعف من الولايات المتحدة بكثير السياسات الأميركية، بخصوص بعض المسائل الجوهرية. فنجاح الولايات المتحدة كان يتوقف على استعدادها للتفكير بشكل جدي بشأن آراء حلفاء أضعف والتوصل لحلول وسطى، رغم وجود اختلافات مهمة. وقد ميزت المرونة النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذاك ربما هو ما يحافظ على مكانة الولايات المتحدة داخل ذلك النظام خلال رئاسة ترامب.
والواقع أن الولايات المتحدة سبق لها أن استخدمت أسلوب القوة والإكراه مع حلفائها، لكنها لم تفعل ذلك إلا حينما رأى رؤساء أميركيون أن أفعال الحلفاء تشكّل تهديداً للأمن الغربي. ولنتأمل هنا مثال أزمة السويس عام 1956، عندما غزت قوات بريطانية وفرنسية وإسرائيلية شبهَ جزيرة سيناء، من أجل استعادة السيطرة على قناة السويس من المصريين. ورداً على ذلك، هدد الرئيس الأميركي، دوايت آيزنهاور، بإضعاف النظام المالي البريطاني، إذا لم تسحب القوى الثلاث قواتها، وهو ما فعلته بعد ذلك.
رد آيزنهاور كان بكل تأكيد قوياً، وذا دلالة كذلك: فهو كثيراً ما يشار إليه باعتباره مؤشراً لنهاية دور بريطانيا كقوة عالمية. غير أن آيزنهاور تصرف على ذاك النحو، لأنه كان يخشى أن يُضعف الغزو البريطاني الفرنسي عقداً من السياسة الخارجية الأميركية، كان يهدف إلى احتواء توسع القوة السوفييتية في الشرق الأوسط وأوروبا والعالم الثالث.
غير أن تلك القضية كانت قد وفّرت للسوفييت نصراً مهماً، لأن الغزو جعل العالم يركز على السويس، بدلاً من الثورة المجرية التي كانت تحاول إسقاط نظام شيوعي فرضته موسكو. كان ذلك في الواقع خطة الزعيم السوفييتي، نيكيتا خروتشوف. فقد دعم القضيةَ المصرية حتى تكون مصدر إلهاء يصرف الانتباه عن المجر، مهدداً بهجمات نووية ضد البريطانيين والفرنسيين إذا لم يسحبوا قواتهم. وبسبب خوفه من إمكانية أن تخرج الأزمة عن نطاق السيطرة، وغضبه لكون الفرنسيين والبريطانيين لم ينسِّقوا مع الولايات المتحدة قبل الهجوم، ضغط آيزنهاور على الدولتين حتى تنسحبا.
الغزو ذكّر العالم بالكولونيالية الأوروبية، وأذكى المشاعر المناوئة للولايات المتحدة، وسرّع استدارة النخبة العربية إلى الاتحاد السوفييتي. وبسبب صرفه الانتباه عن الثورة في المجر، فسح هجوم السويس المجال أيضاً للغزو السوفييتي الذي قتل آلاف المجريين في معارك دامية عبر أرجاء البلاد. ولا شك أن أزمة السويس أكدت الهيمنة الأميركية، حتى عندما كان دافع التدخل الأميركي هو الخوف من أن يُضعف غزو السويس الأمنَ القومي الأميركي لعقود مقبلة.

وفي مرات كثيرة، خلال السنوات التي تلت ذلك، كان حلفاء للولايات المتحدة يرفضون السياسات وطلبات الدعم الأميركية، رغم اعتمادهم الكبير على المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية. وعلى سبيل المثال، في 1954 رفضت أوروبا الغربية فكرة تأسيس «مجموعة الدفاع الأوروبية»، التي مثّلت حجر الزاوية في استراتيجية آيزنهاور الأمنية الأوروبية. وكان الهدف من تأسيس هذه المجموعة هو تقوية أوروبا عسكرياً واقتصادياً حتى تصبح «قوةً ثالثةً» في الشؤون الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لكن رغم الضغط السياسي الأميركي القوي، رفض البرلمان الفرنسي البرنامج، موجهاً بذلك ضربة قوية لسياسة آيزنهاور الخارجية.
وبدلا من جيش أوروبي مدعوم من الولايات المتحدة، يوفّر الجزءَ الأكبر من الأمن الأوروبي، سيظل جيش «الناتو» بزعامة الولايات المتحدة حجرَ الزاوية بالنسبة لدفاع أوروبا الغربية، مميزاً علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين حتى اليوم. وبعد اثنتي عشرة سنة على ذلك، انسحبت فرنسا من «الناتو» رغم احتجاجات قوية من الولايات المتحدة.
الحلفاء كانوا يحدّون أيضاً من حرية المناورة الأميركية، في ما يتعلق بإمكانية استخدام الأسلحة النووية. فخلال الحرب الكورية، كانت بريطانيا تضغط باستمرار على إدارة ترومان كي تحجم عن استخدام أسلحة نووية، حتى رداً على الهجوم الصيني المفاجئ في نوفمبر 1950 الذي هزم الجيش الأميركي الثامن، وهدّد باجتياح شبه الجزيرة الكورية كلها. وبعد بضع سنوات على ذلك، اعترض البريطانيون أيضاً على إمكانية استخدام أسلحة نووية خلال الحرب الصينية الهندية الفرنسية، من أجل إنقاذ القوات الفرنسية العالقة في فخ «دينه بين فو» الذي نصبته لها قوات «هو شي مينه». وقد استسلمت القوات الفرنسية بعد ذلك بوقت قصير.
ومن الواضح أن آراء الحلفاء كانت مهمةً بالنسبة للولايات المتحدة، حتى عندما كان اتّباعها قد ينطوي على خطر هزيمة كارثية للجيش الأميركي في كوريا والهزيمة الفعلية للجيش الفرنسي في الصين الهندية.

تقليد مقاومة القوة الأميركية هذا استمر في عهد الرئيس رونالد ريجان. ففي عام 1986، أمر ريغان بقصف ليبيا رداً على هجوم إرهابي، قُتل فيه شخصان وجرح 79 آخرين في مرقص في برلين الغربية كان يتردد عليه الجنود الأميركيون. لكن فرنسا وإسبانيا وإيطاليا رفضت منح الولايات المتحدة الإذن بشن الهجوم، انطلاقاً من القواعد الأميركية على أراضيها أو منحها حق التحليق في أجوائها لذلك الغرض. وفي نهاية المطاف، تم شن الهجوم انطلاقاً من القواعد الأميركية في بريطانيا، ما أضاف قرابة 1300 ميلاً إلى الرحلة وتطلب عمليات تزويد الطائرات الحربية بالوقود جواً عدة مرات. وهذا يُظهر مرة أخرى قدرة الحلفاء على مقاومة الضغط الأميركي، رغم أن واشنطن طلبت حقوق التحليق فقط، من أجل الرد على هجوم إرهابي حصد أرواحاً أميركية.

إحدى أشهر حالات الرفض للزعامة الأميركية حدثت في 2002-2003 عندما سعى الرئيس بوش الابن للحصول على موافقة الأمم المتحدة على غزو أميركي للعراق. فقد عارض الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرودر غزو العراق، وأقنعا مجلس الأمن الدولي برفض مشروع قرار ترعاه الولايات المتحدة ويرخص لعمل حربي. صحيح أن مقاومتهما لم تمنع الحرب، لكنها مثّلت ضربة قوية لشرعية العملية. ودفع الخلافُ الدبلوماسي بين الولايات المتحدة وحلفائها العديد من المراقبين إلى التشكيك في قدرة التحالف الغربي على الاستمرار.
باختصار، ورغم قوة أميركا وثروتها، إلا أنها نادراً ما كانت في وضع مَن يملي فقط على حلفائه ما ينبغي عليهم فعله. والمرات التي حاولت فيها ذلك كانت عندما شعرتْ بأن الحلفاء يُضعفون أهداف سياستها الخارجية الأساسية، كما أنها لم تنجح إلا بعد محاولات إقناع واستمالة. فقد قاوم حلفاء الولايات المتحدة السياسات الأميركية التي يختلفون معها بشكل متكرر، حتى وإن كانت المواضيع بالغة الأهمية بالنسبة للأمن القومي الأميركي، ما يُظهر أن النظام الدولي لما بعد الحرب لم يُخلق بالقوة والإكراه، وإنما من خلال الإجماع الدولي.
وبالتالي، فعندما يتحدى بعض الحلفاء السلطة الأميركية اليوم، فإن ذلك ليس دليلاً على ضعف أو تراجع أميركي، وإنما هو مثال على نظام «الضوابط والتوازنات» الذي كان مركزياً بالنسبة للعلاقات الدولية خلال سبعين عاماً الماضية. ولئن كانت عملية التعاون هذه ربما لا تمثّل قواعد رسمية، فإنها تُعد العمود الفقري لما نسميه النظام الدولي الليبرالي. والمبادئ العامة التي عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها معاً من أجل خلقها هي التي تحدّ من الأضرار الذي يتسبب فيها رئيس من خارج التيار الرئيسي مثل ترامب، وهي التي ستمكّن مَن سيخلفه من إصلاح علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها.

*باحث في «معهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام» التابع لجامعة كولومبيا -نيويورك
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»