باتت سمعة «القومية» في الحضيض بين المفكرين عندما ادعى الرئيس دونالد ترامب الوصف لنفسه، قائلاً أمام حشد سياسي العام الماضي: «هل تعلمون من أنا؟.. أنا قومي، أليس كذلك؟ يمكنكم استخدام هذا الوصف».
ورداً عليه، نشرت «جيل ليبور» المؤرخة والأستاذة في جامعة «هارفارد» مقالاً عنونته: «لا تدعوا القوميين يتحدثون باسم الأمة»، وكتبت فيه: «إن القومية هي تنازل عن الليبرالية، وهي أيضاً ضد العالمية». بيد أن هذين الزعْمين قد يربكان الشعب الأميركي (وأنا من بينهم)، أو يبدوان مستهجنين.
ويثير كل ذلك التساؤل التالي: كيف تبدو القومية المتعقلة.. تلك القومية التي تتسق على نحو واسع النطاق مع مفهوم العالمية الوسطية. وأبدأ بتوضيح التزامي العميق بالعالمية ومفهوم أن الحدود هي مسألة تقديرية من الناحية الأخلاقية، فالشخص لن يكون أفضل أو أسوأ إذا ولد داخل الولايات المتحدة أو خارجها. وبالطبع، على مدار معظم التاريخ الإنساني، لم تكن تلك الحدود موجودة أو أنها لم تكن مطبقة. فلو رأيت شخصاً يغرق في بحيرة، فأنني أشعر أنه تجب علي مساعدته، ولن يحدث أن أسأله أولاً عن جنسيته. ولا تخبروا دونالد ترامب، لأنني لا أشعر أيضاً أنني مجبر على تشجيع الولايات المتحدة في دورة الألعاب الأولمبية!
لكن الموقف أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، لاسيما عندما نأخذ في الحسبان قضايا سياسية أكثر عملية. فهذا العالم أضحت فيه جميع الأراضي الصالحة للسكن مقسّمة إلى دول قومية مستقلة. وبغض النظر عن ما إذا كان ذلك هو نموذجك الأخلاقي المفضل، فإن هذا النظام ليس من المرجح أن يتغير قريباً. وعلاوة على ذلك، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، أبلى هذا النظام بلاء حسناً. فقد ارتفعت مستويات المعيشة ارتفاعاً كبيراً، وانتشر التقدم، وفي معظم أرجاء العالم، اتسعت رقعة الديمقراطية والحرية، وهذا كله في إطار مذهب أسميه:«القومية العملية».
وكنتيجة بديهية لـ«القومية العملية»، يفكر المواطنون والناخبون في الدول باعتبارها مفاهيم حقيقية جداً. فإذا ما اقترحت أن تُوسّع الولايات المتحدة تغطية التأمين الطبي لكبار السنّ ليشمل أميركا اللاتينية بأسرها، فإن الناخبين الأميركيين سيحتجون. وعلاوة على ذلك، ليس هناك ترابط بين المؤسسات الحكومية البيروقراطية على مستوى الدول، والمفاهيم الثقافية شديدة الاختلاف. ومن الصعب تصور إصلاح مستدام من هذا النوع، ويمكن للمرء أن يتشكك في مثل هذا الإصلاح من دون اعتبار المواطنين غير الأميركيين أقل درجة!
لكن ماذا عن الاتحاد الأوروبي؟
أولاً وقبل كل شيء، يعتبر الاتحاد الأوروبي محاولة محلّ إعجاب لجعل العالم أكثر تحرراً من القيود القومية. ويعني ذلك أنه ينبغي الحكم على هذه التجربة على أسس عملية من حيث نجاحها أو فشلها. ومن هذا المنطلق، فقد نجحت التجربة، ربما بسبب التاريخ الأوروبي الحافل بالمصالح القومية المتداخلة والممارسات الثقافية.
لكن الجزء الصعب هو الموازنة الأخلاقية بين «العالمية العملية» و«القومية العملية» في كل الأوقات وفيما يتعلق بجميع القضايا.
ومن المحزن أن «العالمية» الأخلاقية الصريحة تميل إلى التناقض مع القومية العملية. ففي كل مكان توجد مجموعة كبيرة من الناس تعتقد أن طريقة حياتهم شيء مميز، وهذا الاعتقاد يعزز مميزات الدول الوطنية. وهؤلاء الناس يحققون تماسكاً قومياً واجتماعياً قيماً.
وهناك مشكلة ظهرت حديثاً هي أن شبكة الإنترنت جعلت التناقض بين العالمية الأخلاقية والقومية العملية أكثر وضوحاً. فقد أضحى من السهل أن ننظر إلى القوميين ونعتبرهم عنصريين ومتعصبين وضيقي الأفق. وبالطبع، بعض القوميين متعصبون وعنصريون. وفي الحقيقة، سيكون من الأفضل تخفيف هذه الأشكال من القومية.
والطريقة المثلى لتحقيق ذلك هي بفتح المجال أمام «القومية العملية»، مع السعي على الهامش إلى تخفيفها بـ«العالمية الأخلاقية». فكلا المفهومين قيّمان، ولا يمكن السماح لأحدهما بالهيمنة. وكل من هذين المفهومين ضعيف على حدة، وإن لم يكونا متسقين تماماً، لكن هذا التناقض الديناميكي ربما يساعد في تعزيز كل منهما للآخر.
وكثير من دول العالم، تنجح في تحقيق توازن مثمر بين العالمية الأخلاقية والقومية العملية. وهناك حكمة متجسدة في هذه التجربة الحيّة ربما لا يستطيع المراقبون ولا الفلاسفة التعبير عنها.
فالعالمية الوسطية لن تجد دائماً أقوى الولاءات، كما أن القومية العملية لن تبدو دائماً جيدة. وإذا أمكننا قبول ذلك الواقع، فربما يمكن عندئذ وقف التراشق بين أنصارهما.
أستاذ الاقتصاد في جامعة «جورج ميسون»
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»