في يوم الجمعة الموافق الرابع والعشرين من مايو، أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماي» أخيراً قراراً طال انتظاره بتقديم استقالتها، بعد أن عجزت عن إقناع البرلمان البريطاني بأن لديها خطة قابلة للتطبيق من أجل خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وستنتهي قيادتها بصورة رسمية لحزب «المحافظين» في السابع من يونيو، إيذاناً ببدء سباق على خلافتها. وستظل «ماي» رئيسة وزراء بالإنابة إلى أن يتم اختيار زعيم جديد للحزب، وهو أمر سيستغرق أسابيع على الأرجح. وستبقى في المنصب في يونيو عندما يقوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بزيارته الرسمية إلى المملكة المتحدة.
وعلى الساحة السياسية البريطانية، لم يأسف أحد على رحيل «ماي»، فقد أغضبت جميع الأطياف السياسية البارزة في البرلمان، وعجزت عن الحصول على موافقة الأغلبية البرلمانية على محاولاتها الرسمية الثلاث لتقديم مشروع قانون يتفق مع البنود التي كانت قد اتفقت عليها مع مفاوضي الاتحاد الأوروبي من أجل مغادرة التكتل بأسلوب منظم وفي الوقت المناسب. ونظراً لعدم قدرتها على الحصول على بنود أفضل من الاتحاد الأوروبي، حاولت في البداية التملق إلى حزبها وإقناعه بأن اتفاقها هو الاتفاق الوحيد الواقعي والممكن. وعندما أخفقت، حاولت التوصل إلى تسوية مع حزب «العمال» المعارض، مثيرة بذلك غضب أعضاء حزبها اليميني الذين يعتبرون زعيم حزب «العمال» «جيرمي كوربين» ماركسياً دون ندم، ومؤيداً للمستبدين اليساريين المتعصبين حول العالم، ومتسامحاً مع معاداة السامية داخل حزبه.
وقد تمخضت معركة اختيار خليفة «ماي» حتى الآن عن عشرة متنافسين جادين على الأقل، وجميعهم مختلفون مع بعضهم البعض حول ما إذا كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «من دون اتفاق» يمكن أن يكون مقبولاً إذا لم يتم التوصل إلى حلّ آخر. وسيعني ذلك أن بريطانيا ستغادر التكتل بحلول الحادي والثلاثين من أكتوبر المقبل من دون وضع ترتيبات خاصة بالجمارك والتجارة والهجرة والتعاون المالي الأساسي الذي كان حجر زاوية وجود بريطانيا في الاتحاد.
ولا يزال من المبكر جداً أن نتكهن أياً من المرشحين «المحافظين» سيتمكن من الفوز. والمأزق الأساسي هو أن كلاً من بريطانيا وأوروبا لديهما مواقف شديدة الاستقطاب بشأن مستقبل الحكم. فبعد ثلاثة أيام على إعلان «ماي» استقالتها في الرابع والعشرين من مايو، صوّت الأوروبيون، ومن بينهم جميع المواطنين البريطانيين، لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي. وكانت النتائج هي رفض ملحوظ للأحزاب السياسية التقليدية، لكن بطريقة لم تحل مشكلة التوصل إلى تسويات بشأن قضايا سياسية بارزة مثل الهجرة.
وكان حزب «بريكسيت» البريطاني الجديد، الذي يقوده «نيجيل فاراج» قد حقق انتصارات كبيرة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، على رغم من تأسيسه قبل ستة أسابيع فقط. وجذب المنشقين من قوائم حزبي «المحافظين» و«العمال». وهو بذلك وريث لحزب استقلال المملكة المتحدة، الذي قاده «فاراج» في عام 2016 وكان مسؤولاً عن إقناع «ديفيد كاميرون» بالدعوة إلى استفتاء وطني في 2016، والذي أدى إلى مفاجأة انتصار أنصار «بريكست» بنسبة 52 في المئة من الأصوات.
وعلى رغم من ذلك، كان هناك فائزان كبيران آخران في الانتخابات البرلمانية الأوروبية هما حزب «الديمقراطيين الاجتماعيين» وحزب «الخضر»، وكلا الحزبين كانا مؤيدين بقوة للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وأنصار الحزبين، مثل أنصار «بريكست»، سئموا من سلوكيات الحزبين الرئيسيين في البرلمان. وكانت هناك مفاجأة أخرى هي الظهور القوي للحزب الوطني الأسكتلندي الذي التزم بالبقاء في أوروبا، وأعرب عن أمله في إجراء استفتاء على انفصال أسكتلندا عن المملكة المتحدة إذا غادرت بالفعل الاتحاد الأوروبي.
وإذا عجز أي رئيس وزراء جديد في بريطانيا عن حشد التأييد لاتفاق جديد يحظى بأغلبية في البرلمان، فإنه ربما يضطر للاستقالة في تصويت على «سحب الثقة». وفي تلك المرحلة، ستكون هناك دعوات قوية بإجراء انتخابات عامة يمكن أن تشهد انتصاراً لحزب العمال.
والمشكلة في هذا السيناريو هو «جيرمي كوربين». فهو لن يفوز بأصوات «المحافظين» ويمكن أن يخسر أصوات المعتدلين في حزبه وكذلك الناخبين المستقلين.
وباختصار، من المرجح أن تستمر حالة الفوضى والارتباك التي ميّزت السياسة الأوروبية، وخصوصاً البريطانية، على مدار السنوات الثلاثة الماضية، وسيفضي ذلك أيضاً إلى تقويض الثقة في الأحزاب والمؤسسات التي حكمت بريطانيا وأوروبا طوال العقود السبعة الماضية. وهذا المصير، إلى جانب المخاوف بشأن الاستقرار وأهلية إدارة ترامب ليس لها إلا أن تجلب البهجة والسرور لفلاديمير بوتين، الذي لطالما اعتبر أوروبا والولايات المتحدة أكثر أعداء روسيا خطراً.